يا محمد إنما أنذركم بالوحي الذي أُنزل عليّ أي إنذاري لكم محصور بالوحي. . وقال تعالى في سورة النجم: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى) وكلمة (وما ينطق) من صيغ العموم فهي عام يشمل القرآن وغيره ولا يوجد ما يخصصها بالقرآن لا من الكتاب ولا من السنّة فتبقى على عمومها أي أن جميع ما ينطقه من التشريع وحي يوحى ولا يصح أن تُخصص بأن ما ينطقه من القرآن فقط، بل يجب أن تبقى عامة شاملة للقرآن والحديث.
وأمّا تخصيصها فيما يبلّغه عن الله من تشريع وغيره من الأحكام والعقائد والأفكار والقصص، وعدم شمولها للأساليب والوسائل لرسم المعركة أو تأبير النخل أو غيره فذلك لأنه رسول، والكلام عن رسول، والبحث فيما أُرسل به لا في غير ذلك، فكان موضوع الكلام هو المخصص، وصيغة العموم تبقى عامة في الموضوع الذي جاءت به فلا يكون حينئذ من قبيل التخصيص لقوله تعالى: (قل إنما أنذركم بالوحي)، ولقوله تعالى في سورة ص: (إن يوحى إليّ إلاّ أنما أنا نذير مبين)، فإنها تبين أن المراد هو ما أتى به من العقائد والأحكام وكل ما أُمر بتبليغه والإنذار به، ولذلك لا تشمل استعمال الأساليب أو أفعاله الجبلّيّة التي تكون من جِبِلّة الإنسان أي من طبيعة خلقته كالمشي والنطق والأكل.. الخ، وتختص بما يتعلق بأفعال العباد وأفكارهم لا بالوسائل والأساليب وما شابهها. فكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما أُمر بتبليغه من كل ما يتعلق بأفعال العباد والأفكار هو وحي من الله.
ويشمل الوحي أقوال الرسول وأفعاله وسكوته، لأننا مأمورون باتباعه، قال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، وقال: (لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة)، فكلام الرسول وفعله وسكوته دليل شرعي، وهي كلها وحي من الله تعالى. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقى الوحي ويبلّغ ما يأتيه به عن الله تعالى، ويعالج الأمور بحسب الوحي ولا يخرج عن الوحي مطلقاً. قال تعالى في سورة الأحقاف: (إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ)، وقال في سورة الأعراف: (إنّما أتّبع ما يوحى إليّ من ربي) أي لا اتّبع إلاّ ما يوحى إليه من ربي، فحصر اتّباعه بما يوحى إليه من ربه. وهذا كله صريح وواضح وظاهر في العموم، وأن كل ما يتعلق به صلى الله عليه وسلم مما هو مأمور بتبليغه هو وحي فحسب.
وكانت حياة الرسول التشريعية في بيان الأحكام للناس سائرة على ذلك، فإنه عليه الصلاة والسلام كان ينتظر الوحي في كثير من الأحكام كالظهار واللعان وغيرهما، وما كان يقول حكماً في مسألة أو يفعل فعلاً تشريعياً أو يسكت سكوتاً تشريعياً إلاّ عن وحي من الله تعالى. وقد كان يختلط على الصحابة في بعض الأحكام الحكم في فعل من أفعال العباد بالرأي في شيء أو وسيلة أو أسلوب فيسألون الرسول: أذلك وحي يا رسول الله أو الرأي والمشورة؟ فإن قال لهم وحي سكتوا لأنهم عرفوا أنه ليس من عنده، وإن قال لهم بل هو الرأي والمشورة تناقشوا معه وربما اتّبع رأيهم، كما في بدر والخندق وأُحد. وكان يقول لهم في غير ما يبلّغه عن الله: (أنتم أدرى بأمور دنياكم) كما ورد في حديث تأبير النخل. ولو كان ينطق في التشريع عن غير وحي لَما كان ينتظر الوحي حتى يقول الحكم، ولَما سأله الصحابة عن الكلام هل هو وحي أم رأي، إذ لأجاب من عنده أو لناقشوه من غير سؤال.
وعلى ذلك فإنه عليه الصلاة والسلام كان لا يصدر في قوله أو فعله أو سكوته إلاّ عن وحي من الله تعالى لا عن رأي من عنده، وأنه عليه الصلاة والسلام معصوم عن الخطأ في كل ما يبلّغه عن الله تعالى.
لا يجوز في حق الرسول أن يكون مجتهداً
لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد قط، ولا يجوز الاجتهاد على الرسول شرعاً وعقلاً. أمّا شرعاً فللآيات الصريحة التي تدل على حصر جميع ما ينطق به وما ينذر به وما يتبعه بالوحي (قل إنما أنذركم بالوحي) (إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ) (وما ينطق عن الهوى). وأمّا عقلاً فإنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحي في كثير من الأحكام مع الحاجة الماسة لبيان حكم الله، فلو جاز له الاجتهاد لَما أخر الحكم بل يجتهد. وبما أنه ثبت أنه كان يؤخر الحكم حتى ينزل الوحي فدل على أنه لا يجوز له الاجتهاد ولم يجتهد. وأيضاً فإنه صلى الله عليه وسلم واجب الاتّباع، فلو اجتهد لجاز عليه الخطأ، ولو أخطأ لوجب علينا اتباعه، فيلزم الأمر باتباع الخطأ وهو باطل. وجواز الخطأ على الرسول ينافي الرسالة والنبوة، فالإقرار بالرسالة والنبوة يحتم عدم جواز الخطأ على الرسول والنبي، ويحتم استحالة الخطأ عليه فيما يبلّغه عن الله. وعليه فلا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم الاجتهاد مطلقاً، وكل ما بلّغه من الأحكام بقوله أو فعله أو سكوته وحي من الله ليس غير.
ولا يقال إن الله لا يقره على الخطأ وأنه يبينه له سريعاً، لأن الخطأ في الاجتهاد حين يحصل من الرسول يصبح فرضاً على المسلمين أن يتّبعوه حتى يحصل البيان، فيكون هذا البيان جدد حكماً آخر غير الأول أُمر المسلمون باتّباعه وبترك الحكم الأول وهو الخطأ، وهذا باطل ولا يجوز في حق الله تعالى ولا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم.
على أنه لم يحصل من الرسول اجتهاد فيما بلّغه عن الله تعالى في أي حكم من أحكام الله مطلقاً، بل الثابت بنص القرآن وبصحيح السنّة أنه صلى الله عليه وسلم كان يبلّغ عن الوحي، ولا يبلّغ عن غير طريق الوحي. وأنه كان حين لا ينزل الوحي في حادثة ينتظره حتى ينزل بها.
وأمّا الآيات التي أوردوها وأوردوا أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد بها مثل قوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يُثخِن في الأرض)، ومثل قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنتَ لهم)، ومثل قوله تعالى: (ولا تُصلّ على أحد منهم مات أبداً ولا تَقُم على قبره)، ومثل هذا من الآيات والأحاديث، فإن ذلك لم يكن من قبيل الاجتهاد في حكم وتبليغه للناس ثم الرجوع عنه وتصحيحه في حكم آخر، وإنّما هو من قبيل العتاب على القيام بأعمال. إذ لم يبلّغ الرسول حكماً معيناً ثم جاءت الآية تبين خطأ الحكم الأول الذي بلّغه وأخطأ اجتهاده فيه، وإنّما قام الرسول بعمل تطبيقاً لأحكام الله التي نزل بها الوحي وبلّغها للناس. فالحكم كان مشرعاً وكان مأموراً به وكان الرسول قد بلّغه. وفي هذه الحادثة قام الرسول عليه الصلاة والسلام بالعمل حسب ما أمره الله تعالى، إلاّ أن قيامه به كان على وجه خلاف الأوْلى فعوتب على ذلك عتاباً. فالآيات آيات عتاب على قيام الرسول بما هو خلاف الأوْلى وليست تصحيحاً لاجتهاد ولا تشريعاً لحكم آخر يخالف حكماً كان الرسول قد اجتهد فيه.
ومنطوق الآيات ومفهومها يدل على ذلك، فإن قوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يُثخِن في الأرض) يدل على أن الأمر كان مشروعاً بشرط سبق الإثخان في الأرض، ويؤيده آية (حتى إذا أثخنتموهم فشُدّوا الوَثاق)، والمراد بالإثخان هو القتل والتخويف الشديد. ولا شك أن الصحابة قتلوا يوم بدر خلقاً عظيماً حتى سحقوا عدوهم سحقاً، وليس من شرط الإثخان في الأرض قتل جميع الناس. ثم إنهم بعد القتل الكثير أسروا جماعة. والآية نفسها تدل على أنه بعد الإثخان يجوز الاسر، فصارت هذه الآية دالة دلالة بيّنة على أن ذلك الأمر كان جائزاً بحكم هذه الآية، فلا يكون الرسول قد اجتهد في حكم الأسرى ولا يكون الأسر في بدر ذنباً مخالفاً للحكم الذي نزلت به الآية ولكن يدل على أنه في تطبيق حكم الأسرى على هذه الحادثة كان الأوْلى أن يكون القتل أكثر حتى يكون الإثخان أبرز، فنزلت الآية معاتِبة على التطبيق على وجه خلاف الأوْلى، أي آية عتاب على فعل من أفعال الرسول في حادثة معروف حكمها فعله مخالفاً ما هو الأوْلى بالفعل، فهو عتاب على خلاف الأوْلى. والأنبياء ليسوا معصومبين عن فعل خلاف الأوْلى، فيجوز في حقهم أن يفعلوه، وحين يفعلونه يعاتبهم الله عليه، فهذا عتاب للرسول.
وأمّا قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنتَ لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)، فإنها لا تدل على أي اجتهاد، فإنه يجوز للرسول أن يأذن به، بدليل قوله تعالى في سورة النور: (فإن استأذنوك لبعض شأنهم فأْذَن لمن شئت منهم)، فهي صريحة وتدل على أنه يجوز للرسول أن يأذن لهم، ولكن في تلك الحادثة وهي غزوة تبوك وتجهيز جيش العُسرة كان الأوْلى أن لا يأذن الرسول للمنافقين في التخلف، فلمّا أذن لهم في تلك الحادثة بالذات عاتبه الله على ذلك، أي عاتبه على القيام بخلاف الأوْلى، وليست الآية تصحيحاً لاجتهاد ولا تشريعاً لحكم يخالف حكماً كان الرسول قد اجتهد فيه في نفس الحادثة، وإنّما هو عتاب على ما هو خلاف الأوْلى.
وأمّا قوله تعالى: (ولا تُصلّ على أحد منهم مات أبداً ولا تَقُم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون)، فإنها جاءت بعد قوله تعالى: (فإن رَجَعَك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً) الآية، وقد بين في آية (فإن رَجَعَك الله) أن لا يصحبهم الرسول في غزواته وذلك لتخذيلهم وإخافتهم. وبيّن في الآية التي بعدها وهي (ولا تُصلّ على أحد منهم) الآية، شيئاً آخر في إذلالهم. وكان ذلك أثناء الحملة على المنافقين للقضاء عليهم، وليس في الآية ما يدل على أن الرسول اجتهد في حكم وجاءت الآية دالة على خلافه، بل هي تشريع ابتداءً في حق المنافقين وهي منسجمة مع آيات المنافقين المكررة في نفس السورة، فلا يظهر فيها لا صراحة ولا دلالة ولا منطوقاً ولا مفهوماً أنها تصحيح لاجتهاد وتنبيه على خطأ. وهي نزلت في السنة التاسعة للهجرة بعد تبوك حين حج أبو بكر بالناس. وأمّا ما ورد في شأن نزول هذه الآية والآيات السابقة من أخبار عن سبب النزول وعن حوادثها، فإن كثيراً من هذه الأخبار لم يَصِح، وما صح منها من أحاديث عن سبب النزول فهي أخبار آحاد ظنية ولا تعارِض القطعي الذي يحصر تبليغ الرسول للأحكام بالوحي فحسب، وأنه لا يتبع إلاّ الوحي ولا ينطق إلاّ بالوحي (إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ).
وعلى ذلك لا دلالة في الآيات المذكورة على حصول الاجتهاد من الرسول، فليس فيها تشريع لحكم جديد ولا تصحيح لحكم قديم وإنّما فيها عتاب للرسول على أفعال قام بها وكان حكمها معروفاً بالوحي قبل قيامه بها عليه
|