عرض مشاركة مفردة
  #25  
قديم 14-05-2005, 02:33 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

هذه المعاني كما هي لدى الكاتب أو المتكلم. فالمسألة إذن تنحصر في أمرين: : المعاني والألفاظ التي تؤدى بها هذه المعاني؛ ومن هنا اختلفت عناية الكتّاب والمتكلمين بالمعاني والألفاظ، فمنهم من وجّه عنايته إلى المعاني أولاً وأخضع الألفاظ إلى الدقة في أدائها، ومنهم من وجّه عنايته إلى الألفاظ أولاً وتساهل في دقة أداء المعاني في سبيل الألفاظ. ولذلك انقسم الأسلوب في الكتابة والتكلم إلى قسمين اثنين: أحدهما فكري والآخر أدبي، ولكل منهما نسيج خاص يخالف الآخر.
أمّا الأسلوب الفكري فإن الكاتب أو المتكلم يختار الأفكار التي يريد أداءها لجدّتها أو أو قيمتها أو ملاءمتها لمقتضى الحال، ثم يرتب هذه الأفكار ترتيباً معقولاً ليكون ذلك أدعى إلى فهمها وحسن ارتباطها في ذهن القارئ، وأخيراً يعبر عنها بالألفاظ اللائقة بها. والأسلوب الفكري فيه الانفعال طبيعي أساسي صادر من نفس صادقة، والمعارف العقلية هي الأساس الأول في بنائه، ولا يظهر فيه أي أثر لصنعة الانفعال، وعنايته إنّما هي باستقصاء الأفكار، وهو لغة العقل. والغرض منه أداء الحقائق قصد التعليم وخدمة المعرفة وإنارة العقول. وتمتاز عبارته بالدقة والتحديد والاستقصاء. والأصل فيه هو قيامه على العقل ونشر الحقائق الفكرية والمعارف التي يحتاج الوصول إليها إلى جهد وتعمق. وهو في جملته يتكون من عنصرين أساسيين: أحدهما الأفكار والثاني العبارات.
والأسلوب الأدبي نجد الكاتب أو المتكلم فيه لا يقف عند حد الحقائق والمعارف ولا يجعل قصده تغذية العقل بالأفكار وإنّما يقرب هذه الحقائق ويختار أهمها وأبرزها الذي يستطيع أن يجد فيه مظهراً لجمال ظاهر أو خفي أو معرّضاً لعِظة واعتبار أو داعياً لتفكير أو تأثير. ثم يفسر ما اختاره تفسيراً خاصاً به بما يخلع عليه من نفسه المتعجبة أو المتعظة أو الراضية أو الساخطة، ثم يحاول نقل هذا الانفعال أو إثارة مثله إلى نفوس القراء والسامعين ليكونوا متعجبين أو مغتبطين، راضين أو ساخطين.
والأسلوب الأدبي فيه صنعة الانفعال والعناية بإظهار هذا الانفعال في المعاني والألفاظ التي يؤدي بها أفكاره، والاهتمام فيه منصب على قوة الانفعال وهو لغة العاطفة والمشاعر، والغاية فيه هي إثارة القراء والسامعين، وذلك بعرض الحقائق رائعة جميلة كما يتصورها الكاتب، أو كما يجب أن يتصورها السامعون والقراء. ويقصد فيه أن تتصف عبارته بالتفخيم والتعميم والوقوف عند مواطن الجمال والتأثير. ويتميز بقوة العاطفة التي تؤثر في عباراته تأثيراً واضحاً يبدو في الكلمات والصور والتراكيب. وهو في جملته يتكون من ثلاثة عناصر: أحدها الأفكار، والثاني الصور التي يؤلفها، والثالث العبارات التي يصوغ بها الأفكار والصور.
أمّا قوة الأسلوب ووضوحه وجماله فهي تكون بالأسلوب الفكري كما تكون في الأسلوب الأدبي ولا تختص بأسلوب معين، فهي صفة للأسلوب من حيث هو، سواء أكان أدبياً أم فكرياً.
ومن هنا نجد أن كثيراً من الأساليب الفكرية بلغ فيها وضوح الأسلوب وجماله وقوته ما جعلها تفوق كثيراً من الأساليب الأدبية تأثيراً. والأسلوب الفكري يتحتم في تعليم الناس الأفكار وتفهيمهم إياها وإيجاد التصديق بها لديهم، ولا يؤدى ذلك إلاّ بالأسلوب الفكري وهو أيضاً يفيد بإثارة المشاعر للعمل بالأفكار التي فهمها، ولكن إثارته بطيئة وتحتاج إلى وجود إدراك للفكر حتى تثور المشاعر؛ إلاّ أن المشاعر التي توجد في هذا الأسلوب مشاعر دائمية لا تخبو إلاّ إذا فُقد التصديق بالفكر الذي أثارها.
بخلاف الأسلوب الأدبي فإنه لا يفيد إلاّ باثارة المشاعر وهو يتحتم لتحريض الناس على العمل. وهو وإن كان يعلّم السامع والقارئ حقائق ولكنه يعلّم الحقائق السطحية والمعارف التافهة ولا قدرة له على أداء الأفكار العميقة، وإذا أن يؤديها فإنه يبسطها وينفشها ويتصرف بها فيذهب عنها عمقها ومعانيها فتسخف.
ولذلك لا يمكن أن تؤدى أفكار المبادئ والفلسفة والتشريع والعلوم التجريبية وما شاكلها إلاّ بالأسلوب الفكري، ولا يمكن أن يؤدى الشعر والخطابة وما شابهها إلاّ بالأسلوب الأدبي. فالأسلوب الفكري يتحتم لأداء الفكر، والأسلوب الأدبي يتحتم لاثارة الناس وتحريضهم على العمل الذي يراد منهم.
ومن هنا تجد الأسلوب الفكري يفشو في الأمّة وهي في حال نهضتها وعنفوان سيرها التصاعدي؛ والأسلوب الأدبي يفشو في الأمّة وهي سطحية التفكير أو في حالة الترف. ولذلك نجد العصر الذي بُعث فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد ضعُف فيه الشعر وقل النثر الأدبي، وفشا الأسلوب الفكري في الخطب والأحاديث، وكان القرآن الكريم أروع مثل في الأسلوب الفكري وكان أكثره من هذا الأسلوب، وإن كان قد حوى أروع ما في الأسلوب الأدبي ولكنه يلتزم ما يُلتزم في الأسلوب الفكري من الدقة والتحديد.
والأمّة الإسلامية في هذا العصر قد دبّت فيها أحاسيس النهضة فهي في حاجة إلى الأسلوب الفكري لأداء الحقائق للناس وجعل مشاعرهم المثارة للعمل بها دائمية وإن كنا لا نستغني عن الأسلوب الأدبي في تحريض الناس على العمل، ولكن بعد وضع الفكر الذي نريد منهم أن يعملوا به في أذهانهم وتركيز تصديقهم به.

إنتهى الكتاب