هذه لمحة سريعة للأئمة الأربعة رضي الله عنهم ورحمهم تبين لك أنهم جميعاً كانوا أخوة في هذا الدين ملتزمين بالحق قولاً وعملاً. أخذ بعضهم عن بعضهم وناظر بعضهم بعضاً ولم يتعصب أحد منهم لرأيه. وما دعا أحد منهم الناس إلى اتباعه بل جميعهم نهوا تلاميذهم عن تقليدهم وأمروهم باتباع الحق والدليل. كما قال أحمد لتلميذه: "لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا" (الإيقاظ ص113 وابن القيم في الأعلام (302:2))، يعني الكتاب والسنة. وأقوال الإمام أبي حنيفة في هذا الصدد كثيرة جداً، وكذلك قول الشافعي ومالك . فالأئمة الأربعة جميعهم سلفيون بمعنى السلفية، أي أنهم متمسكون بالدليل باحثون عن الحق غير مقلدين ولا داعين للناس إلى تقليدهم والأخذ عنهم دون فهم وعلم. بل قد حرم الإمام أبو حنيفة أن يفتي أحد بقوله إلا إذا علم دليله حيث يقول: "حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بقولي".
وبذلك خلف لنا الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم تراثاً باهراً من العلم والفقه والاستنباط والأحاديث وأسهموا أيما اسهام في دفع عجلة الفهم لهذا الدين.
ولقد كان السبب في اشتهارهم وحدهم دون كثير من معاصريهم الذين جمعوا علوماً وفقهاً يسامي علوم الأئمة كالأوزاعي والليث بن سعد وأبي ثور وغيرهم أن الله قيض للأئمة الأربعة تلاميذاً مخلصين حفظوا علمهم ودونوه ونشروه. وأما أولئك فقد درس كثير من علومهم وفتاويهم.
ولهذه الشهرة في العالم الإسلامي ولمجيء أوقات عصيبة بعد ذلك ضعفت فيها الدولة العباسية وابتدأت حركة التمزيق والانفصال في عهد الخلافة، وبروز الشعوبية والأهواء والنحل وكثرة الفتاوى الباطلة التي يسترضى بها السلاطين والأمراء وقف بعض الناس يريد أن يوقف طوفان الآراء والاجتهادات الباطلة فنادى في الناس أن لا فقه بعد الأئمة الأربعة ولا يجوز لإنسان أن يفتي بخلاف رأيهم ولا أن يخترع جديداً، وظن الذين أطلقوا هذا القول أن الناس سينتهون عن الإفتاء ولكن هيهات فقد عقبت هذه الفتوى وهي القول بقفل باب الاجتهاد وانحصار الفقه في الأئمة الأربعة فقط أضراراً عظيمة نحصرها فيما يلي:-
أولاً: القول بالتقليد وترك البحث عن الدليل، وبذلك تعطل الفقه والفهم وانحصر جهد طلاب العلم في معرفة أقوال إمامهم فقط دون النظر في أدلته ومقارنتها بأدلة الأئمة الآخرين.
ثانياً: التعصب والتنافس بين تلاميذ المذاهب المقلدين، والذي دفعهم إلى الوقيعة والتباغض والتقاتل والتاريخ شاهد بذلك بل وترك الصلاة وراء بعضهم البعض. فقد ترك مقلدوا كل مذهب الصلاة خلف مخالفيهم في المذهب.
ثالثاً: القول بأن الآراء المختلفة والمتناقضة في المسألة الواحدة كلها حق، وهذا أمر يحيله العقل لأن الشيء الواحد إما أن يكون أسود أو أبيض أو حلالاً أو حراماً ولا يمكن أن يكون الشيء الواحد حلالاً وحراماً في وقت واحد ولشخص واحد. أو يكون الشيء الواحد باطلاً وصحيحاً.. وكل هذا أتى من القول بالتقليد الذي استلزم القول بصحة الأقوال والاجتهادات التي صدرت عن الأئمة جميعاً.
رابعاً: حرمان الأمة من كثير من الأقوال الصحيحة والنصوص الصحيحة التي خالف الأئمة الأربعة فيها مجتمعين الحديث الصحيح كطلاق الثلاث هل يقع ثلاثاً أو طلاقاً واحداً فبينما يقول الأئمة الأربعة جميعا أنه يقع ثلاثاً وبذلك من قال لامرأته (أنت طالق ثلاثاً) فإنها لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره. مع العلم أن الحديث الصحيح بخلاف ذلك فقد كان الطلاق ثلاثاً يقع واحداً في زمن رسول الله وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر. وهذه المسألة أفتى بها الإمام ابن تيمية رحمه الله وكانت السبب في اتهامه بالكفر والردة بناء على أن الدين فقط هو ما قاله الأئمة الأربعة وأنه ليس هناك دين وراء ذلك!
خامساً: حرمان الأمة من البحث والاستنباط في أحكام الوقائع المتجددة. وقد ذكرنا هذا في صدر هذه الرسالة المباركة -إن شاء الله- وبذلك ركد الفهم وبار سوق الاستنباط والعلم بالكتاب والسنة. وسبب هذا في النهاية عزل الشريعة عن حياة الناس والتقنين لهم.
سادساً: اتخاذ التقليد ديناً أدى إلى تشديد النكير على كل من قال بالاجتهاد ووحدة الفقه وأخوة الأذمة ووجوب الأخذ بعلمهم جميعاً الترجيح بين أقوالهم واتهم كل من قال بذلك بمخالفة إجماع الأمة والخروج على جماعتها، والقول بأن يسب الأئمة أو ينتقص مقدارهم ويحط من شأنهم.
سابعاً: ظن الناس أنه يجوز لكل مسلم أن يأخذ رأي إمام ما من الأئمة الأربعة ولو كان النص بخلافة وبذلك ارتكب الكثير من المخالفات.
ثامناً: نشوء ضعف الوازع الديني وذلك بأن المكلف إذا وعظ بالآية وعلم أن هذا كلام الله أو ذكر بالحديث وعلم أن هذا كلام رسول الله كان لهذا شأن عنده بعكس ما لو قيل له هذا رأي الإمام فلان أو الإمام فلان وبذلك نشأ عند كثير من المسلمين ضعف الوازع الديني والذي نشاهده في التحايل على الأمور الشرعية.
تاسعاً: نشأة التلفيق وهو الاتجاه إلى جمع الرخص والتسهيلات الموجودة في المذاهب، وبذلك ينشأ التهاون وارتكاب كثير من المخالفات وذلك بتتبع الأقوال التي تناسب هوى كل إنسان من كل مذهب. ولو كان الاحتكام إلى الدليل من الكتاب والسنة لما وجد هذا.
عاشراً: تعظيم الأئمة إلى الحد الذي رفعهم إلى نسبة العصمة لهم وعدم جواز الخطأ عليهم. ولذلك نرى كثيراً من العلماء لا يجرؤ أن يقول أخطأ الإمام في هذه المسألة مع العلم أن يرى النص بخلاف الفتوى. وهذا التعظيم قد يصل ببعض الناس إلى رد الآية المحكمة القاطعة الدلالة، والحديث الصحيح الواضح المعنى خوفاً من مخالفة الإمام وهذا إن لم يكن شركاً بالله فهو ذريعة إلى الشرك وتقديم غير أمر الله على أمر.
هذه أضرار قليلة سردناها سريعاً أصابت الأمة من القول بقفل باب الاجتهاد ووقوف الفقه والاستنباط عند حد الأئمة الأربعة فقط. وثمة أضرار أخرى لا يتسع لها المجال.
السلفيون والأئمة الأربعة
فضيلة الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق
__________________
و جعلنا من بين أيديهم سدا ً من خلفهم سدا ً فأغشيناهم فهم لا يبصرون
قال صلى الله عليه وسلم:
ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك بمثل ً
كن كالنخيل عن الاحقاد مرتفعاً *** ترمى بحجرٍ فترمي اطيب الثمر
الموسوعة الكبرى للمواقع الإسلامية
|