عرض مشاركة مفردة
  #8  
قديم 06-07-2005, 09:24 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

هذا من حيث أساس الإسلام، أمّا من حيث واقع الإسلام نفسه، فإن الإسلام أفكار، والفكر هو الحكم على واقع، فالإسلام هو أحكام على وقائع، ولذلك لا بد أن تجرى العملية العقلية في كل ما جاء به، فلا بد أن يكون ما جاء به يدرك العقل وجوده إدراكاً حسياً أو يدرك العقل أصله الذي جاء به، ولذلك لا بد أن يفهم العقل النص الذي حوى ما جاء به، سواء كان لفظه ومعناه من الله، أو كان معناه من الله ولفظه من الرسول، وليس فيه شيء غير ذلك مطلقاً. فليس فيه شيء لا يدرك العقل وجوده أو وجود أصله، وليس فيه نص لا يفهمه العقل. فالإسلام باعتباره أفكاراً أساسه العقل والأداة التي تفهمه هي العقل. ومن هنا كان العقل وحده هو الأساس الذي يقوم عليه الإسلام، والأساس الذي نفهم به نصوص الإسلام، فالإيمان به متوقف على العقل، وفهْم ما جاء به متوقف على العقل. وهو كأي فكر من الأفكار الموجودة في أي بحث لا بد أن يُدرَك وجود واقعها بالعقل، أو يدرَك وجود واقع أصلها الذي نبحث عنه بالعقل، ولا بد في نفس الوقت أن يكون نصها الذي حوى أفكارها مما يفهمه العقل ويدرك معانيه. فليس في نصوص الإسلام طلاسم الله أعلم بها، لا في القرآن ولا في الحديث (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)، فحين يقال إن الإسلام خاضع للعقل فهذا القول صحيح، وكذلك حين يقال إن الإسلام مقياسه العقل فهذا القول أيضاً صحيح لأن العقل هو أساس الإسلام، والأداة التي يتوفف فهمه والعمل به على وجودها في هذا الفهم والعمل.

إلاّ أن العقل له واقع، فلا بد أن يُستعمل العقل حسب واقعه حتى ينطبق على العملية بأنها عملية عقلية. ومن واقع العقل أنه لا بد من وجود واقع محسوس حتى يحصل للعقل وجود، فإذا لم يكن هناك واقع محسوس فلا تحصل العملية العقلية، أي لا يوجد عقل. فلا يوجد إدراك إلاّ إذا كان هناك واقع محسوس، ولا يحصل فكر إلاّ إذا كان هناك واقع محسوس. فإذا لم يكن هنالك واقع محسوس فإن المسألة تكون تخيلاً وتخريفاً ولا تكون عقلاً أو فكراً أو إدراكاً. وعلى ذلك لا يُطلب من العقل أن يدرِك واقعاً غير محسوس لأنه يستحيل أن يدركه، أي يستحيل أن تحصل العملية العقلية، فعليه حينئذ أن يسلّم بوجوده لا بحقيقته إن ثبت وجوده ثبوتاً قطعياً، أو أن يرفضه رفضاً باتاً إن لم يثبت وجوده ثبوتاً قطعياً. وعلى ذلك لا يُطلب من العقل أن يدرك ذات الله لأنها واقع غير محسوس فيستحيل إدراكها، وإنّما أُدرك من واقع المخلوقات أن لها خالقاً يقيناً، فأُدرك بذلك وجود الله إدراكاً حسياً، لأن هذا الموجود له واقع دل عليه وجود المخلوقات. فكون الأشياء المدرَكة المحسوسة موجودة أمر قطعي، لأنها مشاهَدة بالحس. وكون الأشياء المدرَكة المحسوسة محتاجة إلى غيرها، أي لها وصف الاحتياج، أمر قطعي أيضاً، لأنها بالمشاهَدة لا تستطيع التصرف ولا الانتقال من حال إلى حال إلاّ بغيرها، فالنار تحرق إذا كانت المادة الأخرى فيها قابلية الاحتراق، وإذا لم تكن فيها قابلية الاحتراق لا تحرقها، وبعض الأحماض تذيب بعض العناصر ولا تذيب غيرها، وبعض العناصر تتحد مع عناصر أخرى وتتفاعل معها ولا تتفاعل مع غيرها، وذرّتان من الهيدروجين مع ذرة من الأوكسجين تنتج ماء، ولكن ذرتين من الهيدروجين مع ذرتين من الأوكسجين تنتج الماء الثقيل وهو مادة غير صالحة لحفظ استمرار الحياة. فهذه الأشياء لم تستطع أن تتصرف في كل شيء، ولا أن تنتقل من حالة إلى أية حالة أخرى إلاّ ضمن وضع قاصر على حالات معينة، ولا تستطيع سواها إلاّ بإحداث تغيير فيها أو في سواها، أو بعامل آخر، فهي إذن محتاجة حتى لو فُرض أنها محتاجة إلى هذه العوامل وهذه الحالات. فالنار لم تستطع أن تحرق إلاّ بوجود مادة قابلة للاحتراق، فهي حتى تحرق محتاجة إلى المادة القابلة للاحتراق. والأحماض لم تستطع أن تذيب إلاّ عناصر معينة فيها قابلية الذوبان، فهي محتاجة إلى العناصر التي فيها قابلية الذوبان حتى تستطيع أن تُحدِث الإذابة. والعناصر لا تستطيع الاتحاد والتفاعل إلاّ بوجود عناصر فيها قابلية التفاعل والاتحاد، فهي محتاجة إلى العناصر التي فيها قابلية التفاعل والاتحاد حتى تستطيع الاتحاد والتفاعل. والماء حتى يتحول إلى ماء ثقيل محتاج إلى من يضيف إليه ذرة أخرى من الأوكسجين إلى كل ذرتين من الهيدروجين حتى يتحول إلى الماء الثقيل. ولا يقال احتاج إلى ما هو فيه، بل احتاج إلى زيادة كمية إلى ما هو فيه، واحتاج إلى من يوجِد له هذه الكمية، فهو محتاج.

ولا يقال إن الأشياء التي في الكون احتاجت لبعضها ولكنها في مجموعها مستغنية عن غيرها. لا يقال ذلك، لأن الحاجة إنّما تبين وتوضح للشيء الواحد، وتُلمس لمساً ولا تُفرض فرضاً نظرياً لشيء غير موجود، فيُفرض وجوده. فلا يقال إن النار احتاجت لجسم فيه قابلية الاحتراق فلو اجتمعا معاً لاستغنيا ولم يحتاجا إلى غيرهما، لأن هذا فرض نظري. فالحاجة للنار وللجسم القابل للاحتراق، هي حاجة لشيء موجود حساً محسوس بإحدى الحواس أو مدرَك عقلاً، وهو بالطبع مما يقع الحس على مدلوله حتى يتأتى إدراكه عقلاً، فالحاجة لشيء موجود والنار والجسم لا يوجد من اجتماعهما شيء يحصل فيه الاستغناء أو الحاجة، وكذلك الأشياء التي في الكون لا يحصل من اجتماعها شيء يحصل فيه الاستغناء أو الحاجة. فالحاجة والاستغناء متمثلة في الجسم الواحد ولا يوجد شيء يتكون من مجموع ما في الكون حتى يوصف بأنه مستغنٍ أو محتاج. فإذا قيل إن مجموع الأشياء التي في الكون مستغنٍ أو محتاج فإنه يكون وصفاً لشيء متخيَّل الوجود لا لشيء موجود. والبرهان يقوم على حاجة شيء معين موجود في الكون لا مجموعة أشياء يُتخيّل لها اجتماع يتكون منه شيء ويُعطى له وصف الحاجة أو الاستغناء. ولذلك لا يَرِد هذا السؤال، لأنه سؤال فرضي تخيلي وليس هو واقعياً حتى ولا فرضاً نظرياً.

ولا يقال إن الأشياء احتاجت لبعضها فلا يكون دليلاً على أنها محتاجة لخالق. فإن البرهان على إثبات مجرد الاحتياج لا الاحتياج إلى خالق، فمجرد وجود الاحتياج في كل شيء يُثبِت الاحتياج في كل شيء.

ولا يقال إن كل جزء محتاج إلى جزء آخر فالأجزاء جميعها محتاج بعضها لبعض، فالثابت هو أن كل شيء محتاج إلى شيء آخر، وهذا لا يثبِت أن الأشياء محتاجة مطلقاً. لا يقال ذلك، لأن احتياج الشيء ولو إلى شيء واحد في الدنيا يثبت أنه لا يوجد في الكون شيء يستغني الاستغناء المطلق، يعني أنه محتاج ولو لشيء واحد في الوجود، أي ثبت له وصف الاحتياج كمن يمشي خطوة واحدة فقد ثبت له وصف المشي، وكمن يتكلم كلمة واحدة ثبت له وصف التكلم. فالاحتياج والمشي والتكلم وغير ذلك مما يدل على الجنس أي مما يدل على الماهية، فإن ثبوت المرة الواحدة فيه يُثبِت الوصف لماهيته. فمجرد ثبوت الاحتياج إلى شيء واحد، والاحتياج مما يدل على الجنس أي على الماهية، يثبِت وصف الاحتياج لكل شيء في الكون، ولذلك فإن احتياج كل جزء إلى جزء آخر يثبِت له قطعاً وصف الاحتياج. وهذا كله ملموس محسوس بالنسبة إلى جميع الأشياء الموجودة على سطح الأرض.