- حكاية الفتى
البغدادي مع الأمير المهلبي
رَوى أُولوا الأَخبارِ
وَناقِلوا الآثارِ
عَن حَدَثٍ ذي أَدَبِ
وَخُلُقٍ مُهذَّبِ
يَسكن في بغدادِ
في نعمةِ تِلادِ
فارق يوماً والدَه
وَطِرفَه وتالِدَه
وحلَّ أَرضَ البَصرَة
بلوعةٍ وحَسرَة
فظَلَّ فيها حائِرا
يكابدُ المرائِرا
وَلَم يَزَل ذا فَحصِ
يسأل كلَّ شَخصِ
عمَّن بها من نازِلِ
وَفاضلٍ مُشاكِلِ
فوَصَفوا نَديما
ذا أَدبٍ كََريمَا
يُنادِمُ المُهلَّبي
وهو أَميرُ العَرَبِ
فأمَّه وقصَدَه
وحين حلَّ مَعهَدَه
عرَّفه بأَمرِه
وحُلوِهِ ومُرِّه
فَقال أَنت تصلحُ
بل خَيرُ من يُستملَحُ
لصحبةِ الأَميرِ
السيِّدِ الخَطيرِ
إِن كنتَ مِمَّن يصبرُ
لخَصلةٍ تُستَنكَرُ
فقالَ أَيُّ خَصلَة
فيه تُنافي وَصلَه
فَقال هَذا رَجلٌ
لا يَعتَريه المَللُ
من اِفتراءِ الكَذبِ
في حَزَنٍ وَطَرَبِ
فإن أَردتَ طولَه
فَصدِّقنَّ قولَه
في كُلِّ ما يَختلقُ
وَيَفتَري وَينطقُ
حَتّى تَنالَ نائلَه
ولا تَرى غوائِلَه
قال الفَتى سأَفعلُ
ذاكَ وَلستُ أَجهلُ
فذهب النَديمُ
وهوَ بِه زَعيمُ
فعرَّفَ الأَميرا
بفضلهِ كثيرا
حتّى دَعا فحضَر
وسَرَّهُ عند النَظر
فراشَه في الحالِ
بكسوةٍ ومالِ
فَلزمَ الملازمة
للأُنس والمنادَمَة
وَلَم يزل يصدِّقُه
في كُلِّ إفكٍ يَخلقُه
فَقال يَوماً واِفتَرى
بهتاً وكذباً مُنكرا
لي عادةٌ مُستحسَنه
أَفعلُها كلَّ سنَه
أَطبخُ للحُجّاجِ
من لحمِ الدَجاجِ
في فَردِ قدرٍ نُزلا
يكفي الجَميعَ مأكلا
فحارَ ذلك الفَتى
من قوله وبَهُتا
وَقال لَيتتَ شعري
ما قدرُ هَذا القِدر
هَل هي بئرُ زمزمِ
أَم هيَ بحرُ القُلزمِ
أَم هيَ في الفَضاءِ
باديةُ الدَهناءِ
فغضِبَ الأَميرُ
وَغاظَه النَكيرُ
وقال ردُّوا صِلَته
منه وقدّوا خِلعتَه
وأَخرجوهُ الآنا
عنّا فلا يَرانا
فندِمَ الأَديبُ
وَساءَهُ التَكذيبُ
وَعاودَ النَديما
لعُذرهِ مُقيمَا
وقال منذُ دهر
لَم أَشتَغِل بسُكرِ
فغالَني الشَرابُ
وحاقَ بي العَذابُ
وَقُلتُ ما لا أَعقلُ
وَالهفوُ قَد يُحتَمَلُ
فَسَل ليَ الإغضاءَ
وَالعَفوَ والرضاءَ
قال النَديمُ إِنّي
أُرضيه بالتأنّي
بشرط أَن تُنيبا
وَتتركَ التَكذيبا
فراجع الأَميرا
واِستوهبَ التَقصيرا
واِستأنفَ الإِنعاما
عليهِ والإِكراما
فعاد للمنادَمة
باللُطف والملازَمة
فكان كلَّما كذب
وَقال إِفكاً واِنتدَب
صدَّقه وأَقسما
بكونه مسلِّما
حتّى جرى في خبر
ذكرُ كلابِ عَبقَرِ
ووصفُها بالصغرِ
وَخلقُها المحتقرِ
قال الأَميرُ وابتكر
ليس العيانُ كالخبر
قد كانَ منذ مدَّه
لديَّ منها عِدَّه
أَضعُها في مكحلَه
للهَزل والخُزَعبَلَه
وكان عندي مَسخَره
أَكحلُ منها بصرَه
فَكانَت الكِلابُ
في عينهِ تَنابُ
وَهي على مجونِه
تنبحُ في جفونِهِ
فَقام ذلكَ الفَتى
يَقولُ لا عشتُ متى
صدَّقتُ هَذا الكَذِبا
شاءَ الأَميرُ أَو أَبى
وردَّ ما كساهُ
بِهِ ومَا حَبَاهُ
وَراحَ يَعدو عاديا
من البلادِ ناجِيَا