( رحمة بكم، أو رحمة لكم غير نسيان ) السكوت بعدم إظهار بعض أحكام القضايا، رحمة لا نسيان، والله -جل وعلا -ليس بنسيٍّ، كما قال -سبحانه- : ( وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً {64} مريم ، (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى {52} طه ، فالله -سبحانه- ليس بذي نسيان، بل هو الحفيظ العليم الكامل في صفاته وأسمائه، سبحانه وتعالى، وجل وتقدس ربنا.
فإذا هناك أشياء لم يبين لنا حكمها، فالسكوت عنها رحمة غير نسيان، أمرنا -عليه الصلاة والسلام- ألا نبحث عنها فقال: ( فلا تبحثوا عنها ) .
إذا تقرر هذا، فالأشياء المسكوت عنها أنواع:
النوع الأول : ما لم يأت التنصيص عليه من المسائل، لكنها داخلة في عموم نصوص الكتاب والسنة، داخلة في العموم، داخلة في الإطلاق، وداخلة في مفهوم الموافقة، أو مفهوم المخالفة، أو في المنطوق، أو أشباه ذلك، مما هو من مقتضيات علم أصول الفقه.
فهذا النوع، مما دلت عليه النصوص بنوع من أنواع الدلالات المعروفة في أصول الفقه، هذا لا يقال عنه: إنه مسكوت عنه؛ لأن الشريعة جاءت ببيان الأحكام من أدلتها بالكتاب والسنة، بأنواع الدلالات، فهذا النوع لا يصح أن يقال: إنه مسكوت عنه؛ ولهذا العلماء أدخلوا أشياء حدثت في عمومات النصوص، ففهموا منها الحكم، أو في الإطلاق، أو في المفهوم وأشباه ذلك، وإذا أردنا أن نسرد الأمثلة، فهي كثيرة يضيق المقام عنها تراجعونها في المطولات.
النوع الثاني: أشياء مسكوت عنها، لكن داخلة ضمن الأقيسة، يعني: يمكن أن يقاس المسكوت عنه على المنصوص عليه، وقد ذهب جمهور علماء الأمة إلى القول بالقياس، إذا كانت العلة واضحة، اجتمعت فيها الشروط، ومنصوصا عليها، فإذا كان القياس صحيحا، فإن المسألة لا تعد مسكوتا عنها.
الحالة الثالثة: أن تكون المسألة مسكوتا عنها، بمعنى أنه لا يظهر إدخالها ضمن دليل، فكانت في عهده -عليه الصلاة والسلام- هذا نوع، ولم ينص على حكمها، ولم تدخل ضمن دليل عام، فسكت عنها، فهذا يدل أنها على الإباحة؛ لأن الإيجاب أو التحريم نقل عن الأصل، فالأصل أن لا تكليف، ثم جاء التكليف بنقل أشياء عن الأصل، فلا بد للوجوب من دليل، ولا بد للتحريم من دليل، فما سكت عنه، فلا نعلم له دليلا من النص، من الكتاب والسنة، ولا يدخل في العمومات، وليس له قياس، فهذا يدل على أنه ليس بواجب، ولا يجوز البحث عنه، ولهذا أنكر النبي -عليه الصلاة والسلام - على من سأله عن الحج فقال الرجل : ( يا رسول الله، أفي كل عام ؟ ) هذه مسألة مسكوت عنها، وتوجه الخطاب للرجل بألا يبحث عن هذا، فسكت عن وجوب الحج، هل يتكرر أم لا يتكرر؟ والأصل أنه يحصل الامتثال بفعله مرة واحدة، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام- :
( لو قلت: نعم؛ لوجبت. زروني ما تركتكم ) يعني: إذا تركت البيان، فاسكتوا عن ذلك، قد ثبت في صحيح مسلم أنه -عليه الصلاة والسلام- قال : ( إن أشد المسلمين -في المسلمين- جرما رجل سأل عن شيء، فحرم لأجل مسألته ) .
قد قال -جل وعلا -: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ {101} المائدة ، فإذا هذا النوع مما سكت عنه، فلا يسوغ لنا أن نبحث، ونتكلف الدليل عليها، تلحظ -أحيانا- من بعض الأدلة التي يقيمها بعض أهل العلم أن فيها تكلفا للاستدلال لحكم المسألة، فإذا كان الدليل لا يدخل فيها بوضوح، فإنها تبقى علي الأصل.
( وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها ) وهذا من رحمة الله -جل وعلا -بعباده.
أسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، أن يلهمني وإياكم الرشد والسداد، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يثبت العلم في قلوبنا، ويرزقنا زكاته والعمل به، وتعليمه، والإحسان في ذلك كله.
بقي عندنا اثنا عشر حديثا، وسنكمل -إن شاء الله تعالى- البقية؛ لأن الأحاديث الباقية قصيرة، وليست بطويلة، وحديث اليوم وما قبل كانت طويلة في ألفاظها، وإلى لقاء -إن شاء الله تعالى- وأثابكم الله.
إنتهى شرح الحديث الثلاثون
تحياتي