فهذا يؤكد على أن القراءات مصدرها الوحي وهي توقيفية لم يتدخل فيها أحد هكذا أنزلت
من عند الله سبحانه وتعالى وهكذا تلاها المسلمون.
وبهذا نعرف بطلان قول من قال إن مصدر القراءات هو لهجات العرب يعني العرب يقرؤون
القرآن بلهجاتهم وهذا الاختلاف الذي حدث إنما هو من اختلاف لهجاتهم لم يقرأهم النبي
-صلى الله عليه وسلم- بهذه الصورة التي قرؤوها عليه وهذا قال به طه حسين ولا شك أن
هذا قول باطل وغير صحيح.
وبهذا أيضا نعرف أيضا بطلان قول من قال إن مصدر هذه القراءات هو اجتهاد القراء
كحمزة وعاصم وابن كثير وابن عامر وغيره من القراء المعروفين هو اجتهاد فنقول: هؤلاء
القراء لم يجتهدوا في هذا الباب من جهة أنهم اخترعوا هذه القراءات أو جاءوا بهذه
الصور لتلاوة القرآن الكريم وإنما حفظوها وألقوها إلى الأمة كما سمعوها لم يغيروا
ولم يبدلوا، وممن قال بذلك ابن مقسم وأبي القاسم الخوئي.
وأيضا يتبين لنا بذلك بطلان من قال إن مصدر الخلاف في القراءات هو رسم المصحف
فبسبب اختلاف الرسم أو كون الرسم محتملا لعدد من وجوه التلاوة حصل الخلاف بين
القراء وهذا قال به المستشرق جولد تسيهر وهو قول باطل رد عليه العلماء في كتب
مستقلة وبينوا تهافت قوله فلو كان رسم المصحف مجردا هو سبب الاختلاف لكانت عندنا
مجالات واسعة ورحبة كثيرة جدا لاختلافات يمكن أن يتلى بها القرآن ومع ذلك لم يتل
بها القرآن مثل ما ذكرنا لكم مرارا في قوله ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾﴿ قُلِ
اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾[آل عمران: 26]، مالك الملك يمكن أن تقرأ ملك الملك
ومع ذلك لم يقرأ بها ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴿1 ﴾ مَلِكِ النَّاسِ ﴾[الناس:
1: 2]، يمكن أن تقرأ مالك الناس ومع ذلك لم يقرأ بها مما يدل على أن الرسم وحده ليس
كافيا في اختلاف هذه القراءات بل هي هكذا وردت وهكذا أنزلت وهكذا تلقتها الأمة
وتوارثتها الأجيال.
بعد ذلك أيها الأحبة نتحدث عن نشأة علم القراءت، بينا فيما سبق من دروس علوم القرآن
بحمد الله سبحانه وتعالى كيف نزل القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولسنا
بحاجة إلى إعادة هذا الأمر ثم بينا بعد ذلك أيضا كيف تم جمعه في عهد الصديق أبي بكر
-رضي الله تعالى عنه- وكيف تم جمعه في عهد عثمان -رضي الله تعالى عنه- إن عثمان
-رضي الله تعالى عنه- لما كتب المصاحف ووحدهم على حرف قريش وما يوافقه من حروف أخرى
التي ثبتت في العرضة الأخيرة كتب سبعة مصاحف وأرسلها إلى الأمصار وأرسل مع كل مصحف
قارئا يعلم الناس فأخذ الناس القراءة من هؤلاء القراء ثم تتابع الناس يقرؤون القرآن
ويروونه ويتلقاه جيل بعد الجيل واستمر الناس على ذلك لما كثر القراء وكثر الرواة
وأصبحت أعدادهم في المصر الواحد لا تكاد تحصر خشي المسلمون أن يأتي إنسان فيدخل في
هذه القراءات شيئا ليس منها ويختلط الأمر على من يأتي من هذه الأمة من يأتي بعد ذلك
من هذه الأمة فتداعى المسلمون إلى ضبط القراء المأمونين المعروفين بطول أعمارهم في
أخذ القرآن واجتهادهم وتوثقهم وكونهم أخذوه من عدد من المصادر وتلقوه تلقيا متقنا
مضبوطا، فضبطوا قراءاتهم حتى يقولوا للناس هذه هي القراءات الثابتة الواردة التي لا
يصح للإنسان أن يتجاوزها أو يزيد عليها لأنه يأتي إنسان مثلا ويقرأ مثلا على
الشامية ثم يذهب إلى الكوفيين فيقرأ عليهم ثم يذهب إلى المكيين فيقرأ عليهم ثم يذهب
إلى المكيين فيقرأ عليهم ثم يقول مثلا أنا قرأت على المكيين والكوفيين والشاميين ثم
يختار من بعض حروف هؤلاء وقراءتهم ومن بعض حروف هؤلاء وقراءتهم ومن بعض حروف هؤلاء
وقراءتهم وتكون له طريقة مستقلة وقد يختلط عليه الأمر أو يزيد أو ينقص ولا يعرف
الناس شيئا من ذلك فجاء العلماء فأخذوا يضبطون القراءات من خلال معرفة الإمام
المضبوط المتقن للقراءة ويدونون قراءته تدوينا تاما ويقولون للناس هذه هي الروايات
المجمع عليها المضبوطة المتواترة التي تلقتها الأمة بالقبول وكتبوا ذلك ودونوه لأن
لا يستطيع أحد بعد ذلك أن يزيد شيئا أو ينقص شيئا ثابتا.
وكان أول من عرف عنه تدوين ذلك أبو عبيد القاسم ابن سلام -رحمه الله تعالى- وهو من
علماء القراءة فدون كتابا في القراءة لم يصل إلينا لكنه ذكر خمسة وعشرين قارئا أو
أزيد من ذلك قد يبلغون الثلاثين أكثر من خمسة وعشرين قارئا من قراء الأمصار الذين
اتفقت الأمة على تلقي قراءتهم بالقبول وعرفوا بهذا الشأن وتناقل الناس عنهم القراءة
وقرأ عنهم أمم بعدهم فكان أول من عرف أنه ضبط هذه القراءات وأثبتها هو أبو عبيد
القاسم ابن سلام ثم تتابع الناس بعده على ضبط هذه القراءات فجاء أحمد ابن جبير
الأنطاكي -رحمه الله تعالى- توفي عام ثمانية وخسمين بعد المائتين وجمع كتابا ذكر
فيه خمس قراءات ثم جاء من بعده علماء آخرون حتى جاء ابن جرير الطبري -رحمه الله
تعالى- توفي عام عشرة بعد الثلاثمائة فألف كتابه في القراءات وذكر فيه أكثر من
عشرين قارئا وجاء بعدهم أئمة ذكروا أكثر من ذلك بلغوها خمسين قارئا وثلاثين قارئا
ونحو هذه الأعداد.
ثم جاء من بعد ذلك الإمام أبو بكر أحمد ابن موسى ابن العباس ابن مجاهد التميمي
المتوفي عام ثلاثمائة وأربعة وعشرين من الهجرة النبوية وتحرى فيما جمع الدقة والضبط
والإتقان وكون من يثبتهم في كتابه هم أكثر من تلقت عنهم الأمة ومن انتشرت قراءاته
في الأنصار فجمع سبعة قراء ولعله أراد أن يوافق عدد المصاحف التي كتبها عثمان
وفرقها في الأمصار فجمع سبعة قراء، سنذكرهم بعد قليل ونبين أسمائهم، جمع هؤلاء
السبعة وضبط قراءاتهم في كتاب سماه السبعة.
ومن بعدها انتهت قراءات من سواهم فلم تعرف ولم تذكر وصار الذين يعرفون بالقراءة
وتروى قراءاتهم بعد ابن مجاهد سبعة قراء وسبب اختياره للسبعة كما ذكرنا هو كما يقول
بعض أهل العلم هو تعدد المصاحف التي نشرها عثمان في الأمصار لكن بعض أهل العلم تمنى
لو أن ابن مجاهد زاد واحدة أو نقص واحدة حتى لا يختلط الأمر على الأمة فتظن أن
القراءات السبع هي الأحرف السبع التي سنتحدث عنها إن شاء الله تعالى في درس مستقل
لأن كثيرين من الناس الآن إذا ذكر الأحرف السبعة ظنوا أنها هي القراءات السبع
وبينهما فرق سنبينه إن شاء الله تعالى.
يقول القاسطلاني -رحمه الله تعالى- «ثم لما كثر الاختلاف فيما يحتمله الرسم وقرأ
أهل البدع والأهواء بما لا يحل لأحد تلاوته وفاقا لبدعتهم كمن قال من المعتزلة ﴿
وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمً ﴾[النساء: 146]، قرؤوها ﴿ وَكَلَّمَ اللهَ
مُوسَى تَكْلِيمً ﴾ ليجعلو المكلم هو موسى لينفوا بذلك الكلام عن الله سبحانه
وتعالى قال ومن الرافضة قوله ﴿ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ
عَضُدً ﴾[الكهف: 51]، قرؤوها ﴿ الْمُضِلَّينَ عَضُدًا ﴾ يعنون بذلك أبا بكر وعمر»،
رأى المسلمون بعد ذلك أن يجمعوا على قراءات أئمة ثقات تجردوا للاعتناء بشأن القرآن
العظيم فاختاروا من كل مصر وجه إليه مصحف أئمة مشهورين بالثقة والأمانة في النقل
وحسن الدراية وكمال العلم أفنو عمرهم في القراء والأقراء واشتهرا أمرهم وأجمع أهل
مصر على عدالتهم فيما نقلوا والثقة بهم فيما قرأوا ولم تخرج قراءاتهم عن خط مصحفهم
هذا سبب عناية العلماء بضبط القراءات في كتب مستقلة حتى لا يعتدي على هذه القراءات
أحد من الناس وأما ابن مجاهد -رحمه الله تعالى- الله يقول الدكتور فهد الرومي حفظه
الله في كتابه دراسات في علوم القرآن «وأخذ بعض العلماء على ابن مجاهد اختياره
للسبع لما في ذلك من الإيهام بحديث الأحرف السبعة فقال أبو العباس أحمد ابن عمار
المهدوي: لقد فعل مسبع هذه السبعة ما لا ينبغي له وأشكل الأمر على العامة بإيهامه
كل من قل نظره أن هذه القراءت هي المذكورة في الخبر أي حديث الأحرف السبعة وليته إذ
اقتصر نقص عن السبعة أو زاد ليزيل الشبهة وقد علل مكي ابن أبي طالب سر اختيارهم
سبعة فقال: ليكون على وفق مصاحف الأمصار السبعة وتيمنا بأحرف القرآن السبعة ثم قال
على أنه لو جعل عددهم أكثر أو أقل لم يمنع ذلك إذ عدد القراء أكثر من أن يحصى عدد
القراء المأمونين المعروفين المضبوطين الضابطين كثير جدا كما بينا أن أبا عبيدة
القاسم ابن سلام قد اختار منهم أكثر من خمسة وعشرين وغيره اختار قرابة الخمسين
كانوا كثيرين جدا لكن ابن مجاهد -رحمه الله تعالى- فعل ذلك لقصد يقول: وقد دافع
كثير من العلماء عن ابن مجاهد -رحمه الله تعالى- في ذلك بأنه لم يقتصر على هؤلاء
السبعة إلا بعد اجتهاد طويل ومراجعة متأنية في الأسانيد الطوال وكان موفقا في
اختياره الذي حظي بموافقة العلماء والقراء وتأييدهم لأن الناس بعد ذلك قد ثبتوا على
هؤلاء السبعة وزاد بعض القراء ثلاثة وكملوا بهم ثلاثة فكملوا بهم العشرة فصار
القراء المأمونون المعروفون بضبط القراءة وتؤخذ عنهم قراءة القرآن هم هؤلاء السبعة
ومعهم أولئك الثلاثة قال حيث إن كثرة الروايات في القراءات أدت إلى ضرب من الإضراب
عند طائفة من القراء غير المتقنين فقد أراد بعضهم أن يختار من القراءات في نفسه
خاصة فينفرد بها فقطع ابن مجاهد عليهم الطريق ودرء عن القراءات كيدهم وعن القراء
اضطرابهم ومما يدل على نزاهته -رحمه الله تعالى- وحسن قصده أنه لم يسعى إلى أن
يختار لنفسه قراءة تحمل عنه قال: قراءة مجاهد مما يدل على أنه كان يريد أن يجمع
القراءات التي كثرت في الأمة وكثر الآخذون لها وعرف أصحابها بالضبط والإتقان والدقة
وحين سئل عن ذلك -رحمه الله تعالى- أجاب قال: نحن أحوج إلى أن نعمل أنفسنا في حفظ
ما مضى عليه أئمتنا أحوج منا إلى اختيار حرف يقرأ به من بعدنا. »