
24-08-2005, 01:35 AM
|
كاتب مغوار
|
|
تاريخ التّسجيل: Jun 2004
الإقامة: الأردن
المشاركات: 2,917
|
|
النوع الثاني: المحاسبة بعد العمل وهي على أقسام ثلاثة :
أ- محاسبتُها على التقصير في الطاعات في حق الله تعالى وذلك يكون بأن يديم سؤاله نفسه: هل أديتُ هذه الفريضة على الوجه الأكمل مخلصاً فيها لله ووفق ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فإن كان مقصّراً وأيّنا يسلم من ذلك؟ فليسدّ الخلل بالنوافل فإنها تُرقّع النقص في الفريضة وتربي لدى العبد جانب العبادة، وبالمجاهدة وكثرة اللّوم يخفّ التقصير في الطاعات إلى درجة كبيرة.
ب- محاسبتها على معصية ارتكبتها: قال ابن القيم في ذلك: (وبداية المحاسبة أن تقايس بين نعمته - عز وجل - وجنايتك؛ فحينئذٍ يظهر لك التفاوت، وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمتُه أو الهلاكُ والعطب. وبهذه المقايسة تعلم أنّ الرّب ربّ والعبدَ عبد، ويتبيّن لك حقيقةُ النفس وصفاتُها وعظمةُ جلال الربوبّية وتفرّدُ الربّ بالكمال والإفضال، وأنّ كل نعمة منه فضل وكلّ نقمة منه عدل... فإذا قايست ظهر لك أنها منبع كلّ شرّ وأساس كلّ نقص وأنّ حدّها: [انها] الجاهلةُ الظالمةُ، وأنّه لولا فضل الله ورحمتُه بتزكيته لها ما زكت أبداً. ولولا إرشاده وتوفيقه لما كان لها وصولٌ إلى خير البتة؛ فهناك تقول حقا: أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي).
وبعدأن يحاسب نفسه هذه المحاسبة ويجلس معها هذه الجلسة المطوّلة فإنه ينتقل إلى الثمرة والنتيجة ألا وهي العمل على تكفير تلك المعصية، فيتدارك نفسه بالتوبة النصوح وبالاستغفار والحسنات الماحيةِ والمذهبة للسيئات. قال سبحانه: ]إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [ [هود : 114]. فالبدارَ البدارَ قبل أن يُختم لك بخاتمة سوء وأنت مُصِرّ على تلك المعصية ولم تتبْ منها. وتذكّر الحشرَ والنّشر وهوْلَ جهنّم وما أعدّه الله للعصاة والفسقة من الأغلال والحديد والزقوم والصديد في نارٍ قال كعبُ الأحبار عنها رضي الله عنه : (لو أنّه فُتح من جهنّم قدرُ منخرِ ثور بالمشرق ورجلٌ بالمغرب لغلى دماغُه حتى يسيل من حرّها) أجارنا الله والمسلمين منها.
فبذلك السبيل وأشباهه من المحاسبة يكون المرء صادقاً في محاسبته نفسه على ارتكاب المعصية والذنب ومن منّا يسلم من معاقرة الذنوب والخطايا؟! نسأل الله اللطف والتخفيف.
ج- محاسبتها على أمرٍ كان تركه خيراً من فعله، أو على أمرٍ مباح، ما سبب فعلِه له؟ فيُوجّه لنفسه أسئلة متكرّرة: لِمَ فعلتُ هذا الأمر ؟ أليس الخير في تركه؟ وما الفائدة التي جنيتها منه؟ هل هذا العمل يزيد من حسناتي؟ ونحو ذلك من الأسئلة التي على هذه الشاكلة.
وأمّا المباح فينظر: هل أردت به وجه الله والدار الآخرة فيكون ذلك ربحاً لي؟ أو فعلتُه عادةً وتقليداً بلا نيّةٍ صالحة ولا قصدٍ في المثوبة؛ فيكون فعلي له مضيعة للوقت على حساب ما هو أنفع وأنجح؟ ثم ينظر لنفسه بعد عمله لذلك المباح ، فيلاحظ أثره على الطاعات الأخرى من تقليلها أو إضعاف روحها، أو كان له أثرٌ في قسوة القلب وزيادة الغفلة؛ فكلّ هذه الأسئلة غايةٌ في الأهمية حتى يسير العبد في طريقه إلى الله على بصيرة ونور.
أورد أبو نعيم بسنده عن الحسن قوله: (إنّ المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبُه
فيقول: واللهِ إنّي لأشتهيك، وإنّك لمن حاجتي؛ ولكن واللهِ ما من صلةٍ إليك، هيهات!! حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء (يقع في الخطأ) فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردتُ إلى هذا، وما لي ولهذا؟ ما أردتُ إلى هذا، وما لي ولهذا؟ واللهِ ما لي عذرٌ بها، وواللهِ لا أعود لهذا أبداً إن شاء الله.
إن المؤمنين قومٌ أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كلّه).
وبالجملة؛ فلا بُدّ للمسلم من دوام محاسبة النفس، ومعاتبتها وتذكيرها كلّما
وقعت منها زلّة أو جنحت إلى حطام الدنيا الفاني.
ولننظر إلى أنموذج آخر في كيفية معاتبة النفس أورده أبو حامد الغزالي رحمه الله حيث يقول: (وسبيلك أن تقبل عليها فتقول لها: يا نفس ما أعظم جهلك، تدّعين الحكمة والذكاء والفطنة وأنت أشدّ الناس غباوة وحمقاً!! أما تتدبرين قوله تعالى: ] اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ*مَا يَاًتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ *لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ... [[الأنبياء : 1 3] ويحك يانفس!إن كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراكِ فما أعظم كفرك! وإن كان مع علم باطلاعه عليكِ فما أشدّ وقاحتك وأقلّ حياءك! ويحك يا نفس!!
لو كان الإيمان باللسان فلِمَ كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار؟!!ويحك يانفس! لا ينبغي أن تغرّكِ الحياة الدنيا، ولا يغرّكِ بالله الغرور..فما أمرك بمهمّ لغيرك، ولا تضيّعي أوقاتك؛ فالأنفاس معدودة، فإذا مضى عنكِ نَفَسٌ فقد مضى بعضُك. ويحك يا نفس! أوَ ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا، ثم ذهبوا وخلوا؟ اعملي يا نفس بقيّة عمرك في أيام قصار لأيّام طوال، وفي دار حزن ونصب لدار نعيم وخلود).
خامساً : نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم:
إنّ البحث والاستقصاء عن كلّ ما ورد من نماذج رائعة وصور مشرقة لمحاسبة السلف الصالح لأنفسهم يتطلّب مجهوداً جبّاراً ووقتاً طويلاً؛ لأن أولئك القوم ارتبطت قلوبهم بالله؛ فكانوا أجساداً في الأرض وقلوباً في السماء، وما إن يحصل من أحدهم تقصير أو زلّة إلا ويسارع في معالجة خطئه، ومعاقبة نفسه على ذلك؛ حتى لا تكاد تأمره إلا بخير. ولعلّنا نقتصر هنا على بعض النقولات العجْلى عن أولئك النفر الكرام لعلّها تحرّك القلوب، وتشحذ النفوس وتربّي المسلم تربية جادة قويّة.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعتُه يقول وبيني وبينه جدار: عمر!!
أمير المؤمنين!! بخٍ بخٍ، واللهِ بُنَيّ الخطاب لتتقينّ الله أو ليعذبنّك).
وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له: أَتَتْركون الخليفة حين يكون فارغاً حتى إذا شُغِل بأمر المسلمين أتيتموه؟ وضربه بالدرّة، فانصرف الرجل حزيناً، فتذكّر عمر أنه ظلمه، فدعا به وأعطاه الدرّة، وقال له: (اضربني كما ضربتُك) فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك. فقال عمر: إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقّك) فقال الرجل: تركته لله. فانصرف عمر إلى منزله فصلّى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه: (يا ابن الخطاب: كنتَ وضيعاً فرفعك الله، وضالاً فهداك الله، وضعيفاً فأعزّك الله، وجعلك خليفةً فأتى رجلٌ يستعين بك على دفع الظلم فظلمتَه؟!! ما تقول لربّك غداً إذا أتيتَه؟ وظلّ يحاسب نفسَه حتى أشفق الناس عليه).
وقال إبراهيم التيمي: (مثّلتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها، ثم مثّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس أيّ شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أُردّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً! قلتُ: فأنتِ في الأمنية فاعملي).
وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال: كنتُ أصحبُه فكان عامةُ صلاته بالليل، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحسّ بالنّار ثم يقول لنفسه: يا حنيف! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعتَ يومَ كذا؟).
ونُقِل عن توبة بن الصّمة: (أنه جلس يوماً ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم؛ فصرخ وقال: يا ويلتى! ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟!! ثم خرّ فإذا هو ميّت!! فسمعوا قائلاً يقول: يا لكِ ركضةٌ إلى الفردوس الأعلى). يقول الغزالي معلّقاً على هذه القصّة: (فهكذا ينبغي أن يحاسب (العبد) نفسه على الأنفاس، وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كلّ ساعة.
ولو رمى العبد بكلّ معصية حجراً في داره لامتلأت دارُه في مدة يسيرة قريبة من عمره، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي؛ والملكان يحفظان عليه ذلك ] أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ... [ [المجادلة : 6].
ويُحكى أن حسان بن أبي سنان مرّ بغرفة فقال: متى بنيت هذه؟
ثم أقبل على نفسه، فقال: تسألين عمّا لا يَعْنيكِ؟! لأعاقبنّك بصيام سنة، فصامها).
وقال عبد الله بن قيس: كنّا في غزاةٍ لنا فحضر العدو، فَصِيحَ في الناس فقاموا إلى المصافّ في يومٍ شديد الريح، وإذا رجلٌ أمامي وهو يخاطب نفسَه ويقول: أيْ نفسي! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي: أهلَكَ وعيالك؟!! فأطعتُك ورجعت! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي: أهلَكَ وعيالك؟!! فأطعتُكِ ورجعت! واللهِ لأعرضنّكِ اليوم على الله أخَذَكِ أو تَركَكِ. فقلت: لأرمقنّكَ اليوم، فرمقته فحمل الناسُ على عدوّهم فكان في أوائلهم، ثم إنّ العدو حمل على الناس فانكشفوا (أي هربوا) فكان في موضعه، حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتِل؛ فواللهِ ما زال ذلك به حتى رأيتُه صريعاً، فعددتُ به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة).
وأخيراً :
نختم بفائدة مهمّة فيما يعين على المحاسبة ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله في (مدارج السالكين)؛ فقد ذكر أن ممّا يعين على المحاسبة: أن يكون المرء صادقاً في محاسبته لنفسه. وتعتمد المحاسبة الصادقة على ثلاثة أسس: الاستنارة بنور الحكمة؛ وسوء الظنّ بالنفس، وتمييز النعمة من الفتنة.
فأمّا نور الحكمة؛ فهو العلم الذي يميّز به العبد بين الحقّ والباطل، وكلّما كان حظّه من هذا النور أقوى كان حظّه من المحاسبة أكمل وأتمّ.
وأما سوء الظن بالنفس؛ فحتّى لا يمنع ذلك من البحث والتنقيب عن المساوئ والعيوب.
وأما تمييز النّعمة من الفتنة؛ فلأنه كم مُسْتَدْرَج بالنّعم وهو لا يشعر، مفتونٍ بثناء الجهّال عليه، مغرورٍ بقضاء الله حوائجه وستره عليه!.
حكى الذهبي عن المرّوذي قال: قلت لأبي عبد الله (يعني الإمام أحمد): قدم رجلٌ من طرسوس فقال: كنّا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم
بالدعاء لأبي عبد الله، وكنّا نمدّ المنجنيق ونرمي عن أبي عبد الله. وقد رُمي عنه
بحجرٍ والعلج على الحصن مُتَتَرّسٌ بدَرَقَته فذهب برأسه والدّرقة!! قال: فتغيّر وجه أبي عبد الله وقال: ليته لا يكون استدراجاً).
وصلى الله وسلّم على محمدٍ وآله وصحبه وسلّم .
منقووووول
|