الكــــتب المقدســــة
أجبرني الزوج في أحد الليالي بأن أذهب معهم إلى مراسم عزاءٍ سيقام بسبب وفاة وليّ صالح !!
وأمرني بأن أتصدر أنا هذه المرة النساء في قراءة كتبهم الضالة ! وحتى يتعلموا مني !
وحتى تتأكد جميعهن من أنني أصبحتُ إحداهنّ !! فأنا مثار جدلٍ لا ينقطع بينهنّ !!
أصرّ على قوله .. تقدّم إليّ أمام أهله حاملاً في يده بعضاً من الكتب ..
انتقلت نظراتي بعشوائيةٍ إلى يديه .. أدركتُ فوراً أنه يريد مني أن أخذل !
- ماذا تحمل في يديك ؟
- هذه الكتب التي أردت منك قراءتها على النساء ! وبصوتٍ عالٍ !
حتى تتجنبي نظراتهن إليك بأنكِ مخلوقٌ غريب !! وحتى تثق النساء بأن الله قد هداكِ إلى الطريق القويم !
مدّ يده ببطء .. فتناولتُ الكتب .. وركّزتُ نظري على الكتاب الأول وقلت بنبرة تشكك !! :
- دلائل الخيرات ؟! .. روض الرياحين ؟! .. مجالس العرائس ؟! .. الروض الفائق .. البُردة ... !!!
قاطعني بتوتر :
- لا حاجة لكِ أن تقرأي العناوين بهذا التشكك وتلك الريبة !! اقرئيها فقط فيما بعد .. وافعلي ما آمركِ به !!
- ولكنّي لا أجد من بينها كتباً من كتب الأحاديث المعتمدة !! أين هي ؟!
عضّ على نواجذه وتضايق ثم قال :
- ماذا تقصدين ؟ وهل يساوركِ الشك في هذه الكتب ؟ إنها من الكتب التي يستغني المرء فيها عن قراءة القرآن !
صُعِـقْت !! شعرتُ أن هذه الكتب تحوي افتراءات وأكاذيب إذاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم !
وأنها قد حُشيت بالأحاديث الموضوعة والمكذوبة !! وأنها جمعتْ بين الغث والموضوع والبدع !!
لا .. يجب أن أحذِّر من قراءة هذه الكتب المسومة الكاذبة ! فكيف أقرأها على الملأ ؟
إنْ رفضتُ فسألقى عقاباً ساحقاً !! ما العمل ؟!
نظرتُ إلى والدته وإخوته .. ووجدتها فرصةً ومناسبة .. فقلتُ :
- ما رأيكم ؟ من الأفضل أن آخذ معي مصحفاً ، وكذلك كتب الحديث المشهورة مثل الصحيحين ، السنن ،
الموطآت ، المسانيد ، المصنفات .. فإنها تغنينا حتماً عن ... وسكتّ
فهمتُ بأني قد أصبتُ الهدف ! تجهم وجهه على الفور ،
وبصوتٍ متهدج خافت مليء بالرغبة في قتلي وسحقي وقلوب الجميع تعاضده :
- كفّي .. كفّي .. لا أريد سماع المزيد !! إلى متى سنظل في اختلاف ؟! متى ستهتدين ؟ متى ستقتنعين ؟
متى ستتوقفين عن معارضتنا ؟ سحقاً لكِ ؟ لم يجرؤ أحدٌ قط على انتقاد هذه الكتب المقدسة سواكِ !
آزرته أمه وقد استولى عليها الغضب الشديد :
- كفّي .. استمعي إلى أوامر زوجك ولا تعارضيه .. اذهبي لتستعدي للخروج .. تأخرنا ... بسرعة !
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ..
كنتُ في ظاهري هادئةً ومسترخية .. ولكن إحساسي الداخلي بالانعزال آلمني كثيراً !!
لماذا يقف الجميع ضدي ؟! رباه ! لقد تعبت .. ساعدني يا إلهي .. لا أريد أن أذهب معهم ..
لا أريد أن أقرأ كتبهم ! فليموتوا بغيظهم .. لا أريد أن أضعف أبداً أبداً ..
أخذتُ أتأمل الكتب التي أمامي بعينين لا تميزان شيئاً ، بعينين فارغتين ..
فتحتُ الصفحة الأولى من كتاب ( مجالس العرائس ) ..
أحسستُ بانقباض في صدري منه .. فتحتُ على الصفحة الثالثة من الجزء الرابع وقرأت:
" أن الله خلق الأرض على قرن ثور ! وأن مدّ البحر وجزره يحدث بسبب تنفس الثور !
وأن الله خلق العرش على الماء فاضطرب وتأرجح ، فخلق الحية فالتفّتْ حول العرش فسكن !!!!!
يا إلهي ! ما هذا الكذب ؟ هل بعد هذا الكذب من كذب يا معشر الصوفية ؟!!!
أغلقْتُ الكتاب بسرعة وأنا أرتجف ما هذا ؟ ... ودعاني الفضول إلى فتح كتاب آخر يُقال له ( الروض الفائق ) !!
في الصفحة (61) يقول صاحبه ويُدعى ( الحريفيش )
بأنه كان يذهب إلى الحج وهو يصلي في مسجده الأوقات الخمسة لا ينقطع منها في أي وقت أبداً !!!!!
هل يُعقل هذا الهراء ؟ إذا كان صاحب عقلٍ ودين فكيف يحجّ وهو يصلّي في مسجده في البصرة الأوقات الخمسة ؟!!!
وهل حدثت خارقةٌ مثل هذه الخارقة الكاذبة للرسول صلى الله عليه وسلم ؟!!!
تابعتُ القراءة ... ماهذا أيضاً ؟ إنه يعلم الغيب ! .
إنه يُحدّد وقت وفاة بعض الناسوعلى الإسلام يموتون أم على الكفر ! فسأله خادمه: وكيف عرفتَ ذلك؟
فقال :- اطّلعْتُ على اللوح المحفوظ فوجدتُ فيه ذلك !!!
لا لا لا ... هل أقرأ كتباً تحمل كذباً وافتراءً ؟ وبهذه الصورة ؟ لا .. أرجوكم !!
وقفتُ بسرعة .. استرقتُ النظر إلى الباب .. هل رآني أحدهم وأنا أقرأ ؟ لا يبدو ذلك !
يبدو أنهم مازالوا يستعدْون حتى نخرج للعزاء.. اغتنمت الفرصة..
فتحت كتاباً آخر بطريقة عشوائية..
قرأتُ في كتاب (روض الرياحين).. بأن أعرابياً قال للرسول صلى الله عليه وسلم :" إنْ حاسبني ربي لأحاسبنّه !!
فهبط جبريل عليه السلام وقال : يا رسول الله بلّغ الأعرابي بأن الله يقول :
لا يحاسبنا ولا نحاسبه لأنا قد غفرنا له !!!
أيُّ جرأةٍ على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ؟! إنه روض الشياطين وليس الرياحين !!
تملكني الذعر والذهول ! في هذه اللحظة سمعت صوتاً خلفي .. أدرت رأسي ببطء .. إنه هو ..
تأملته من رأسه وحتى أخمص قدميه ! قلت له وأنا ألاحظ نظراته الباردة المتسائلة عن ردة فعلي على ما قرأت:
- لن أفعل .. لن أفعل .. أرجوك .. اتركني وشأني .. مَنْ أنتم ؟ اتركوني .. أرجوكم !!
أجابني بلهجةٍ جافةٍ خلتْ من الرحمة وتجردت منها :
- صدقيني ستفعلين .. وبدون أية مقاومة .. والآن .. لا تفقديني انضباط أعصابي !
وقف الجميع خلفه والنصر يتراقص في عيونهم .. اتجهتُ نحو السلم دون أن ألتفت إليهم ..
تبعني بسرعة وأمسك بقوة على معصمي ثم أمرني بهدوء عاصف :
- سأنتظر .. لا أحب أن أطيل الانتظار .. أو .. أكرر الكلام .
ارتعد صوتي بالانفعال ، وبدتْ إمارات الانهيار على تصرفاتي وأنا أهتف قائلةً :
- إذاً قررتم أن أموت غيظاً ونيران الرفض تستعر في حناياي !!
أجاب بنظراته المليئة بالثقة .. والفرح يظهر في صوته البارد :
- نعم .. ها قد أصبتِ أخيراً .. والآن تحركي !...
رفعتُ نظري إلى السماء وعيناي ملأى بالدموع .. ركضتُ وأطلقتُ العنان لدوعي تسيل على وجهي الكئيب ..
أمرني بالتوقف .. فلم أفعل .. ركضتُ إلى غرفتي وأقفلتُ الباب ورائي ..
وتركته ومَنْ معه غاضبين وعيونهم تقدح شرراً .. سمعتُ صدى صوته وهو ينادي .. ارتعدتُ .. لا خيار .. سأذهب .. سأذهب !
بدا الانكسار يتجسد في ملامحي .. نظرتُ إليهم وأنا أهبط درجات السلم .. فبادلوني يتلك النظرة الملأى بالزهو !
ذهبتْ والدته معي وأمرتني واثقةً وأمام النساء بأن أبدأ القراءة ..
ابتسمتُ .. ثم .. رفضت .. اعتذرتُ للجميع بأني أعاني ألماً حاداً في رأسي .. وتركتهن ..
وعلامات الغيظ تنطق عنها وعنهن ..!
تبعتني بعد قليل والدته مُحرجة .. وقالت بابتسامة مصطنعة تخفي ورائها غيظاً مكظوماً:
- حسناً .. إنْ لم تقرأي .. فتعالي وشاركينا اللهج بالدعاء والمجالسة ..
وتعلّمي .. ربما انتفعتِ .. تصنعتُ بدوري الألم في رأسي فوضعتُ يدي عليه وقلتُ لها أطمئنها :
- حسناً .. سألحق بك بعد قليل يا خالتي !!
دخلتُ .. استقبلتني نظراتهن الضيقة .. وأفسحت إحداهن لي مكاناً .. شكرتها .. ثم جلستُ وأنا أتنهد ..
بعد قليل دخلت امرأة تتبعها أربعٌ من النساء وفي أيديهن كتب ! ما هذا ؟
لا بد أنها الكتب نفسها التي طالبوني يقراءتها أمامهم !!
ثم .. ما هذا إنها تحمل مصحفاً ؟! صحيح ؟! لا أصدق !
جلست النسوة الأربعة مقابلاتٍ لنا وبدأت إحداهن بقراءة القرآن .. ولكن .. إنها تتغنى به !
تعجبت من قراءتها !! انخفضتْ نظراتي لترى أكواب الماء منتظمة
وكذلك جوالين الماء موجودة في الأرض بجانب القارئات .
عندما يصيب إحداهن النّصب والتعب تتداول الأخريات في القراءة .. وبأصوات وتغنٍ به مختلف ..
كان هذا اليوم هو ثالث أيام العزاء ويسمى بيوم ( الختم ) لأنهن يختمن فيه القرآن فيهدينه إلى الميت !!
أخيراً انتهت المرأة من القراءة فبدأتْ بالدعاء بصوتٍ مرتفع ،
وإنشاد مدائح للرسول صلى الله عليه وسلم من كتاب رأيته بين يديها ..
كتاب ( البُردة ) .. إنه كتاب يحوي مدائح غرامية في الرسول الكريم كما سمعت عنه !
فتحت هؤلاء النسوة الكتب الباقية فقرأت إحداهن :
وقال الوليّ الصالح فلان بن فلان .. وفي الكتاب الفلاني ..
وقرأنا في حاشية العلاّمة العارف بربه وبأسراره الفلاني .. إلخ .. ما بال الناس مذعنون ؟ متأثرون ؟!
انتظرتُ مطوّلاً نصاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ... أطلت الانتظار.. لا أمل في ذلك ..
أكملت القارئة :
- ونحتج بفعل ذلك بعمل الولي الصالح فلان بن فلان ... !!
تعجبت .. شعرتُ بشيءٍ ما يُعلن سخطه وعدم رضاه بداخلي ! شعرت بأن الهزل يوشك أن يبدأ ..
ثم أقنعتُ نفسي الرافضة لكل ما أرى بأني عن قريب راحلة .. إن شاء الله .. وددتُ أن أصرخ فيهنّ ..
أن أدوّي بصيحات تجعل من أركان المجلس تهتزّ .. كفى .. أرجوكم ..
لماذا تصرّون على تحطيمي وتعذيبي لماذا ؟
ألم تتفكروا في قوله تعالى : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا )
آه لشعوري بالانعزال والاضطهاد .. آه ليقيني بما تحملون عليّ من ضغينة وأحقاد !!
أخيراً انتهت المرأة من الأذكار والقرآن .. فتمتمت بكلمات لم أفهمها .. كنتُ في مدٍّ جزر مع ما يحدث حولي ..
يا الله كُنْ بي لطيفاً .. فجأة رفعت إحدى القارئات صوتها وقالت :
- الفاتحة على روح فلان بن فلان .. فقرأن الفاتحة ..
ثم قالت مرةً أخرى :الفاتحة بنيَّة كذا وكذا ..
وللقصة تتمة بإذن الله