عرض مشاركة مفردة
  #10  
قديم 03-09-2005, 04:55 PM
مُقبل مُقبل غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jul 2005
المشاركات: 461
إفتراضي

بركــــات المــاء والطعـــام


انتهتْ القارئة من كل شيء ثم وقفتْ .. فقامت النساء وهاجتْ وماجتْ .. ما بهنّ ؟!
أين يذهبن ؟ أين أذهب أنا ؟ ... أوه .. إنهنّ يتنافسْنَ في أخذ الماء المتواجد لدى القارئات ! ماذا دهاهُنّ ؟
والدة الزوج وأخواته أيضاً ؟ إنهنّ يتخاطفْن أكواب الماء و جوالينه !!
ما هذا ؟ هذه امرأة شتمتْ أخرى لأنها كانت سبباً في سكب بعض الماء من كوبها !!

بضع دقائق.. انتهت الفوضى ! عادت كل واحدة ، وكأنها تحمل كنوزاً من الذهب والفضة !!
قلت في نفسي :
- ما هؤلاء النسوة الغافلات ؟ الماء منتشر في كل مكان ! لِمَ هذا بالذات ؟
ولم يمضِ وقتٌ حتى نادت صاحباتُ العزاء النسوةَ إلى الطعام ..
أيضاً إنهن يتنافَسْنَ في الدخول إلى غرفة الطعام .. مهلاً .. ما بهنّ ؟! ليس للطعام جنحان ليطير بهما !!

شدّتْ والدةُ زوجي على يدي بقوة وأخذتْ تُسرع وأنا خلفها .. فبدأتُ بالكلام ولكنها قاطعتني :
- فيما بعد .. فيما بعد .. هيا الآن .. أنتِ بالذات يجب أن تأكلي وتتصدري غرفة الطعام .. بسرعة !
سألتها بفضولٍ بريء :
- لماذا ؟ لا أريد طعاماً ! كُلِي أنتِ يا خالتي بالهناء !..
قاطعتني وهي تنظر إليّ بمكر ودهاء لم أعرف كنهه:
- بل أنتِ أولى الفتيات التي يجب أن تأكل من هذا الطعام !!

جلستْ هي وأجلستني بجانبها !
وأخذتْ تُطعمني بيدها أمام النساء ! احمرّ وجهي خجلاً ..نظرات النساء سُلطتْ علينا ! ..
قلتُ لها بلطف :
- أرجوك يا خالتي .. كفى .. أنا سآكل .. لا تحملي همي ... أوه .. أشعر بالخجل .. أرجوك ..
ضحكتْ النسوةُ استلطافاً لما رأيْنَ ..
فأشرقتْ عينا والدة الزوج وهي تقول :
- هيا كُلي .. تباركي بهذا الطعام .. إنه مذبوح باسم الوليّ الصالح .. كُلي .. ولو لقمة واحدة ..

اجعلي البركة تسير في دمائك وجسدك ... !!!!
توقفتُ عن الطعام وأنا تحت تأثير هذه الكلمات ! شعرتُ برغبةٍ صارخةٍ في التقيُّؤ !!
لا .. لا .. لا..
كيف استطاعوا فعل ذلك ؟ كيف ؟ لقد نذروا بالذبح لغير الله ؟!!
كيف يجرؤن ! لا يمكن !
يا رب لم تعُدْ لي قدرةٌ على الحياة معهم !! هذا فعلٌ قبيح ! إنه شركٌ أكبر !!
رباه أنا لستُ منهم يا رب..
رباه أعلم قولك في كتابك الكريم :
( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما )

وقفتُ .. أقاومُ جوعي وعطشي .. تركتهم وما يصنعون ! ذهبتُ مُسرعةً إلى أقرب دورةٍ للمياه ..!
أخرجتُ ما أكلته حراماً ! ولكني أشعر بالوهن والجوع ..
إنهم يستخدمون معي عقاب التجويع بأقوى درجاته حتى أؤمن .. ولكن لا .. الجوع أرحم من طعامٍ حرامٍ .. الجوع أهون من إيماني بما يدّعون .. لأمُتْ جوعاً ..
لأُجاهد نفسي ضد نفسي .. لا بأس حسبي لقيماتٌ قليلاتٌ بالحلال !..

تلفتُّ حولي بدهشة كبيرة .. أريد العودة إلى المنزل .. إني أتضوّر جوعاً ..
آهٍ وآهٍ لما أصابني .. أريد العودة إلى أهلي ..
لحقتْ بي أم الزوج تنبهني بأخذ كأسٍ من الماء من إحدى القارئات .. انتبهي إليه .. و إلا فاشربيه ..
هيا يا ابنتي اشربيه .. ابتسمتُ بألم وقلتُ لها حتى أردّ كيدها عني :
- شربتُ الآن كأساً مماثلاً أخذتُه من المكان نفسه !!
- رائع ! إذاً سنأخذ كأساً أخرى لابنتي في المنزل .. خذيه وانتبهي له جيداً أرجوك ..
لا تدعي قطرةً منه تتسرب ..!

ما العمل الآن !! سوف أعود للمنزل ! وسأجده هناك ينتظرني ! وسيسألني عمّا إذا امتثلتُ لما أمرني به أم لا ..!
ولكني لم أستطع ذلك .. كيف له أن يفهم ؟ كيف أنجو منه ؟ ما العمل يا رب ما العمل ؟

اللهم إني أنتظر منك فرجاً ومخرجاً من بعدما عانيتُ من الضيق والبلاء !!
عُدنا إلى المنزل .. وفي الطريق أخذتْ والدته الكأس من يدي وهي تحافظ عليه كما تحافظ الأم على الوليد
لم أُعلِّق ولم أنطق .. كان تفكيري منصباً على هذا الزوج الذي ينتظرني في المنزل !
أوه .. تذكرتُ .. عضضتُ على فمي بقوةٍ كدتُ منه أن أدميه .. يا ويلتي ..
لقد نسيتُ المفتاحَ بالداخل .. لابُدّ من الصدام !!!

طرقتُ الباب بأنامل قد جمّدها الخوف .. استجمعتُ قواي .. طرقت مراراً وأنا أشعر بالهلع العظيم !!!
أخيراً .. فُتح الباب على مصراعيه .. رأيته أمامي .. تنحّى عن الباب قليلاً ..
دخلْنا نبضتْ خفقات قلبي بقوةٍ أسمعتْ مَنْ في المشرق والمغرب .
أغلق الباب خلفه بركلةٍ من رجله ونظراته تحدّق بي .. نقل نظراته إلى والدته التي تقف بجانبي وقال :
- أمّاه .. هل فعلتْ ما أمرتُها به ؟

لم تردّ أمه .. نظرتْ إليّ بعينين جامدتين خائفتين ..
أضاف وهو يحرقني بنظراته موجهاً الحديث لأمه :
- تكلمي يا أمّاه .. هل فعلتْ أم لا ؟ بالطبع لا !! تكلموا .. لم تفعلْ أليس كذلك يا أمي ؟!
شعرتُ بثقل يكبل أجزائي وبقلبي يصارع في الخروج من مخبأه من وطأة لخوف !
قالت أمه بخوف أمام نظراته المثبتة عليّ :
- يا بني .. هدّئ من روعك .. إنها .. آه .. نعم نعم .. لقد فعلتْ !!

مشى بخطوات عريضة تجاهي .. نظر إليّ بتحدٍ عندما طال صمتي .. عرف أن والدته قد كذبتْ عليه ..
فأمّعنَ النظر في وجهي وكزّ على أسنانه بقوةٍ جبارة .
أما أنا فقد أدركتُ بأن شعوري بالأمان في هذه اللحظة قد ابتعد عني بعيداً جداً في الأفق !!
هزّني بعنف .. وصفعني صفعةً قاسية جداً أفقدتني الذاكرة لبضع دقائق ..
فبدا لي وكأنه يُقهقه ضاحكاً من شدة القهر والغيظ .. والخيبة فيما يرجو !!!

صرخ قائلاً :
- لا فائدة تُرجى منها في هذا المجال يا أمي .. ماذا عساي أن أصنع بها ؟ لقد أمَّلْتُ فيها خيراً كثيراً
ولكن يبدو أنني كنتُ مخطئاً ! أخبروني ماذا أفعل معها ؟ أقتلها ؟
سأصبح عمّا قريب إماماً للأولياء والصوفية ! وزوجتي هي العدّو الأول لي في مذهبي !!
كيف سيصوّت الجميع لي وهي بهذه الطريقة ؟ كيف ؟ كيف ؟
انفجرتُ باكيةً حينها :
- إذاً ... أطلق سراحي .. والآن .. أنا لا أريدك .. لا مجال للعيش بيننا ..
هيا .. افعل .. لا تعذبني .. لماذا تُصرّ على بقائي معك ؟ أنا سأضرّك أكثر من أن أنفعك !

كانت أنفاسهُ تتردّدُ بصوت مسموع لكنه قال بهدوء :
- وهل تظنين بأني فاعل ؟ أرجو ألا يُراودكِ الأمل في ذلك مطلقاً ! لن أترككِ أبداً مهما طال النزاع بيننا !!
ثم انسحب بسرعة ودون أن يضيف شيئاً آخر ...
ارتميتُ على الأريكة وامتلأت عيناي حسرةً وحزناً على حالي ! يا إلهي أنت ملاذي وملجأي فساعدني ..
ذهب الجميع .. بقيتُ وحدي .. ولكن لن أقول سوى الحمد لله على كل حال !
أتتْ والدتُه بعد قليل وكأنها تتشفى مما حدث .. اقتربتْ مني وأنا أرتجف كطائرٍ جريح لم يجدْ له راعياً ومطمئناً ..

وقفتُ قليلاً ثم ابتعدتُ عنها وحاولتُ التظاهر بالتفتح والنسيان فقلتُ لها :
- لا بأس .. كل شيء على ما يُرام يا خالتي !! لا تقلقي سيعتدل الوضع قريباً .. سيعتدل ..
تركتها بخطواتٍ زاحفة .. شعرتُ بأنها تريدُ أن تقول شيئاً ما .. ولكني لم أفضّل البقاء !
توجهتُ نحو غرفتي .. استلقيتُ على فراشي .. أخذتُ أفكر مليّاً بالوضع ..
آه يا رأسي إنه يؤلمني من كثرة البكاء .. والأنين .. ما سرّ حقدهم المتناهي عليّ؟

هل لأنني سنيّة ؟ ولكن لو كان طريقهم يؤدي إلى الجنة وإلى رضوان الله فأنا مستعدةٌ لإتباعه ..
ابتسمتُ متحسرة .. الحمد لله الذي نجّاني مما هم فيه !
سمعتُ صوتاً ينادي ! لم أجبْ ! أشعر برغبةٍ في الانفراد والانعزال ! نحن لا نتفق فما الذي يجبرني على البقاء ؟
يجب أن أذهب بأي طريقة ! ليس لي مكانٌ في هذا المكان !!!
سمعتُ الصوت مرةً أخرى .. إنه صوته .. سكتّ ! ثم أجبت .. ماذا بعد ؟! ماذا يريدون بي ؟

نزلتُ إلى الطابق السفليّ .. وآثار الصفعة الموجعة مازالت تُعلن عن إصرارها على البقاء على وجهي الحزين ..
شعرتُ بوجوده دون أن أنظر إليه .. أجبتُهُ وأنا أنظر إلى أصابعي المرتعشة :
- نعم .. بم تأمرني ؟!!!
نظر إلى ما تركه من أثر في وجهي .. اقترب قليلاً ليتأكد منه .. ثم تنهد ..
ومشى بخطواته الثقيلة إلى مكان وجود أكواب الماء ..
وأخذ كوباً وقدّمه إليّ وهو ينظر بمكر دون أن يحاول إخفاء نبرة البرودة التي تشعّ من صوته ..
ثم جاء بجالون ماءٍ كبير وسكب في كأسي وقال آمراً..
- تفضلي بشرب هذا الماء .
.
نظرتُ إلى الجالون في يده .. عُدتُ بذاكرتي إلى الوراء قليلاً .. أين شاهدتُه ؟
لقد رأيته في مكانٍ ما بهذه الإشارة الحمراء .. نعم .. نعم تذكرت !!
إنه الماء الذي تخاطفته النسوة في العزاء !
كيف أتي به إلى هنا ؟ ماذا يحدث ؟
شعرتُ بأنها محاولةٌ منه لامتحان ذكائي وقدرتي على الملاحظة .. لأنه وضع الجالون أمام عينيّ .

حاولتُ التصرف برزانة .. فقلتُ وقد رفعتُ نظري إليه ..
- عذراً .. لا رغبة لي في شرب الماء الآن .. لقد شربتُ للتو كأسين من الماء .. أعتذر عن شربه ..
قاطعني بحدّة :
- ولكنك ستشربين .. أليس كذلك .. ؟!
دخلت أمه وإخوته في هذه اللحظة .. مسحتُ جبيني بالمنديل .. وهممتُ بالاحتجاج .. وهنا بادرني كمن قرأ أفكاري .
- قلتُ : ستشربين !! أم أنكِ ستعارضيني على ذلك أمام أهلي جميعاً ؟!

أشعر بأن هذا الماء يحوي شيئاً ما لا أعرفه ! أردتُ الاعتذار ثانيةً .. وفعلتُ ..
ولكن اعتذاري هذه المرة كان عن طريق عينيّ اللتين تضرعتا للجميع بأن يقنعوه بأن يتركني وشأني ..
وعرفتُ أنْ لا فائدة تُرجى منه أو منهم !!
شربته !!! لم أبقِ فيه قطرةً واحدة .. فلمعتْ عيناه بالانتصار العظيم .. وازداد انكسار قلبي وألمه .. فقال مبتهجا ضاحكا:
- صدقيني .. أتوقع أن تفوق النتيجة آمالنا !

حدّقْتُ فيه ثم قلتُ بهدوء وأنا أمسح وجهي المعروق بظاهر يدي :
- كي تحصل على ما تريد فإنك تدوس على مشاعر الآخرين دون أن تهتم بقليل من اعتبارهم ..
أليس كذلك ؟!!
قال بمرح دون أن ينظر إليّ وهو يستدير ليعيد الماء إلى مكانه :
- نعم أصبتِ .. أصبتِ .. !

في اليوم التالي مباشرة علمتُ أن الماء الذي شربته كان لأحد أوليائهم !! لقد غسّلوا فيه هذا الوليّ الذي حضرنا عزاءه !!
بعد موته!! أي أنه غسول ميت !! والغرض بالطبع منه أن تسري بركته في جسدي مجرى الدم فأتأثر وأصبح صوفية !!!!
سألته وقد عانيتُ ما عانيتُ من الشعور بالاستياء والظلم ، وبكل لطف يخفي ما أنا فيه من لوعة ومرارة وحزن :
ما نوع الماء الذي أسقيتنيه البارحة ؟

فقال شاردا، وقد أحسستُ من خلال شروده أنه فوجئ بمعرفتي لمصدر الماء:
- الماء ! إنه ماء طبيعي ! أم أنك ستقولين بأنك تشكين بمصدره أيضا ؟!
انهمرت أدمعي .. أحشفة وسوء كيلة ؟! لماذا يكذب عليّ أيضا ؟
فقلت منهارة :
ولكني علمت من مصدر موثوق طبيعة هذا الماء !! حرام عليك حرام ما تفعله بي ..
لماذا تفعل كل ذلك بي لماذا ؟

قال جادا وبحماس:
_ ماذا ؟ يجب أن تتباركي بهذا الماء ، فأنتِ قد شربتِ من غسول وليّ صالح ..
فمن يحصل له ذلك !! عجبا لأمرك !!
دعوت الله أن يفرج همي وأن يبقي على ما بقي من صبري وجَلَدي فيخرجني من بين هؤلاء القوم الظالمين ..
ويعتقني من أسرهم ..



وللقصة تتمة بإذن الله
الرد مع إقتباس