[ ما نزل من القرآن فيما أحدث اليهود والنصارى ]
ثم جمع أهل الكتابين جميعا ، وذكر ما أحدثوا وما ابتدعوا ، من اليهود والنصارى ، فقال إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس إلى قوله قل اللهم مالك الملك أي رب العباد والملك الذي لا يقضي فيهم غيره تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير أي لا إله غيرك إنك على كل شيء قدير أي لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وقدرتك . تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي بتلك القدرة وترزق من تشاء بغير حساب لا يقدر على ذلك غيرك ، ولا يصنعه إلا أنت أي فإن كنت سلطت عيسى على الأشياء التي بها يزعمون أنه إله من إحياء الموتى ، وإبراء الأسقام والخلق للطير من الطين والإخبار عن الغيوب لأجعله به آية للناس وتصديقا له في نبوته التي بعثته بها إلى قومه فإن من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه تمليك الملوك بأمر النبوة ووضعها حيث شئت ، وإيلاج الليل في النهار والنهار في الليل وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي ورزق من شئت من بر أو فاجر بغير حساب فكل ذلك لم أسلط عيسى عليه ولم أملكه إياه أفلم تكن لهم في ذلك عبرة وبينة أن لو كان إلها كان ذلك كله إليه وهو في علمهم يهرب من الملوك وينتقل منهم في البلاد من بلد إلى بلد .
[ ما نزل من القرآن في وعظ المؤمنين ]
ثم وعظ المؤمنين وحذرهم ثم قال قل إن كنتم تحبون الله أي إن كان هذا من قولكم حقا ، حبا لله وتعظيما له فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم أي ما مضى من كفركم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسول فأنتم تعرفونه وتجدونه في كتابكم فإن تولوا ، أي على كفرهم فإن الله لا يحب الكافرين
[ما نزل من القرآن في خلق عيسى ]
ثم استقبل لهم أمر عيسى ( عليه السلام ) ، وكيف كان بدء ما أراد الله به فقل إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ثم ذكر أمر امرأة عمران وقولها : رب إني نذرت لك ما في بطني محررا أي نذرته فجعلته عتيقا ، تعبده لله لا ينتفع به لشيء من الدنيا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى أي ليس الذكر كالأنثى لما جعلتها محررا لك نذيرة وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم يقول الله تبارك وتعالى : فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا بعد أبيها وأمها .
قال ابن هشام : كفلها : ضمها .
[ خبر زكريا ومريم ]
قال ابن إسحاق : فذكرها باليتم ثم قص خبرها وخبر زكريا ، وما دعا به وما أعطاه إذ وهب له يحيى . ثم ذكر مريم ، وقول الملائكة لها : يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين يقول الله عز وجل ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم أي ما كنت معهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم
[ تفسير ابن هشام لبعض الغريب ]
قال ابن هشام : أقلامهم سهامهم يعني قداحهم التي استهموا بها عليها ، فخرج قدح زكريا فضمها ، فيما قال الحسن بن أبي الحسن البصري .
[ كفالة جريج الراهب لمريم ]
قال ابن إسحاق : كفلها هاهنا جريج الراهب رجل من بني إسرائيل نجار خرج السهم عليه بحملها ، فحملها ، وكان زكريا قد كفلها قبل ذلك فأصابت بني إسرائيل أزمة شديدة فعجز زكريا عن حملها ، فاستهموا عليها أيهم يكفلها فخرج السهم على جريج الراهب بكفولها فكفلها . وما كنت لديهم إذ يختصمون أي ما كنت معهم إذ يختصمون فيها . يخبره بخفي ما كتموا منه من العلم عندهم لتحقيق نبوته والحجة عليهم بما يأتيهم به مما أخفوا منه .
ثم قال إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم أي هكذا كان أمره لا كما تقولون فيه وجيها في الدنيا والآخرة أي عند الله ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين يخبرهم بحالاته التي يتقلب فيها في عمره كتقلب بني آدم في أعمارهم صغارا وكبارا ، إلا أن الله خصه بالكلام في مهده آية لنبوته وتعريفا للعباد بمواقع قدرته . قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ؟ قال كذلك الله يخلق ما يشاء أي يصنع ما أراد ويخلق ما يشاء من بشر أو غير بشر إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن مما يشاء وكيف شاء فيكون كما أراد .
[ ما نزل من القرآن في بيان آيات عيسى عليه السلام ]
<581> ثم أخبرها بما يريد به فقال ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة التي كانت فيهم من عهد موسى قبله والإنجيل كتابا آخر أحدثه الله عز وجل إليه لم يكن عندهم إلا ذكره أنه كائن من الأنبياء بعده ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أي يحقق بها نبوتي ، أني رسول منه إليكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله الذي بعثني إليكم وهو ربي وربكم وأبرئ الأكمه والأبرص
[ تفسير ابن هشام لبعض الغريب ]
قال ابن هشام : الأكمه الذي يولد أعمى . قال رؤبة بن العجاج :
هرجت فارتد ارتداد الأكمه
( وجمعه كمه ) . قال ابن هشام : هرجت : صحت بالأسد وجلبت عليه . وهذا البيت في أرجوزة له .
وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم أني رسول الله من الله إليكم إن كنتم مؤمنين ومصدقا لما بين يدي من التوراة أي لما سبقني عنها ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم أي أخبركم به أنه كان عليكم حراما فتركتموه ثم أحله لكم تخفيفا عنكم فتصيبون يسره وتخرجون من تباعاته وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم أي تبريا من الذين يقولون فيه واحتجاجا لربه عليهم فاعبدوه هذا صراط مستقيم أي هذا الذي قد حملتكم عليه وجئتكم <582> به . فلما أحس عيسى منهم الكفر والعدوان عليه قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله هذا قولهم الذي أصابوا به الفضل من ربهم واشهد بأنا مسلمون لا ما يقول هؤلاء الذين يحاجونك فيه ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين أي هكذا كان قولهم وإيمانهم .
[ رفع عيسى عليه السلام ]
ثم ذكر ( سبحانه وتعالى ) رفعه عيسى إليه حين اجتمعوا لقتله فقال ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ثم أخبرهم ورد عليهم فيما أقروا لليهود بصلبه كيف رفعه وطهره منهم فقال إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا إذ هموا منك بما هموا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم القصة حتى انتهى إلى قوله ذلك نتلوه عليك يا محمد من الآيات والذكر الحكيم القاطع الفاصل الحق الذي لا يخالطه الباطل من الخبر عن عيسى ، وعما اختلفوا فيه من أمره فلا تقبلن خبرا غيره . إن مثل عيسى عند الله فاستمع كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك أي ما جاءك من الخبر عن عيسى فلا تكن من الممترين أي قد جاءك الحق من ربك فلا تمترين فيه وإن قالوا : خلق عيسى من غير ذكر فقد خلقت آدم من تراب بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر فكان كما كان عيسى لحما ودما ، وشعرا وبشرا ، فليس خلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا . فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم أي من بعد ما قصصت عليك من خبره وكيف كان أمره فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين
[ تفسير ابن هشام لبعض الغريب ]
قال ابن هشام : قال أبو عبيدة نبتهل ندعو باللعنة قال أعشى بني قيس بن ثعلبة
لا تقعدن وقد أكلتها حطبا نعوذ من شرها يوما ونبتهل
وهذا البيت في قصيدة له . يقول ندعو باللعنة . وتقول العرب : بهل الله فلانا ، أي لعنه وعليه بهلة الله . ( قال ابن هشام ) : ويقال بهلة الله أي لعنة الله ونبتهل أيضا : نجتهد في الدعاء .
قال ابن إسحاق : إن هذا الذي جئت به من الخبر عن عيسى لهو القصص الحق من أمره وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون فدعاهم إلى النصف وقطع عنهم الحجة .
[ إباؤهم الملاعنة]
فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله عنه والفصل من القضاء بينه وبينهم وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك فقالوا له يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه . فانصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب وكان ذا رأيهم فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى ؟
فقال والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم . فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم<584> ، فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا ، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا ، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا ، فإنكم عندنا رضا .
[ تولية أبي عبيدة أمورهم ]
قال محمد بن جعفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين . قال فكان عمر بن الخطاب يقول ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحبها ، فرحت إلى الظهر مهجرا ، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم ثم نظر عن يمينه وعن يساره فجعلت أتطاول له ليراني ، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه فقال اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه . قال عمر فذهب بها أبو عبيدة
|