أخي الحبيب أبا إيهاب .. أخي الحبيب الوافي
يبدو أن كثيراً من الناس ينسى أن المسلمين منذ أن فرض الصيام وهم يستخدمون الرؤية ابصرية لإثبات دخول الشهر في بعض الحالات ولكنهم كانوا ومازالوا يستخدمون الحساب ! ولا يعتمدون فقط على الرؤية البصرية . ودليل ذلك أنهم إذا لم يروا الهلال فإنهم يتمون الشهر ثلاثين يوماً ومن ثم يعتمدون بداية شهر جديد بغض النظر عن رؤية الهلال من عدمها ، إذن هم قاموا بحساب أيام الشهر المنصرم حتى بلغ الثلاثين .
وأنقل لكم جزءاً من فتوى للشيخ القرضاوي :
" هي التقدير للهلال عند الغيم، أو كما قال الحديث : " إذا غمَّ عليكم " أو " غمي عليكم " أو "غبي عليكم" أي حال دونه حائل، ففي بعض الروايات الصحيحة، ومنها مالك عن نافع عن ابن عمر، وهي السلسلة الذهبية، وأصَحّ الأسانيد عند البخاري : " إذا غم عليكم فاقدروا له "، فما معنى " اقدروا له"؟
قال النووي في المجموع : (قالَ أحمد بن حنبل وطائفةٌ قليلة : معناه : ضيِّقوا له، وقدروه تحت السحاب، من " قدر " بمعنى ضيق كقوله : (قُدِرَ عليه رِزْقهُ) وأوجب هؤلاء صيام ليلة الغيم .
وقال مطرِّف بن عبد الله ـ من كبار التابعين ـ وأبو العباس بن سريج ـ من كبار الشافعية ـ وابن قتيبة وآخرون : معناه : قدروه بحسب المنازل .
وقال أبو حنيفة والشافعي وجمهور السلف والخلف : معناه : قدروا له تمام العدد ثلاثين يومًا .
واحتج الجمهور بالروايات التي ذكرناها، وكلها صحيحة صريحة : " فأكملوا العدة ثلاثين "، " فاقدروا له ثلاثين "، وهي مفسرة لرواية : " فاقدروا له " المطلقة). (المجموع 6/270).
ولكن الإمام أبا العباس بن سريج لم يحمل إحدى الروايتين على الأخروي، بل نقل عنه ابن العربي أن قوله : " فاقدروا له " : خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وأن قوله : "أكملوا العدة " خطاب للعامة. (انظر : فتح الباري 6/23، ط .الحلبي).
واختلاف الخطاب باختلاف الأحوال أمر وارد، وهو أساس لتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال
قال الإمام النووي في المجموع : (ومن قال بحساب المنازل، فقوله مردود، بقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين : " إنَّا أمةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نكتب ولا نحسب " ... الحديث .
قالوا : ولأن الناس لو كلفوا بذلك ضاق عليهم ؛ لأنه لا يعرف الحساب إلا أفراد من الناس في البلدان الكبار). (المجموع 6/270، ط .المنيرة).
والحديث الذي احتج به الإمام النووي ـ رحمه الله ـ لا حجة فيه ؛ لأنه يتحدث عن حال الأمة، ووصفها عند بعثته لها عليه الصلاة والسلام، ولكن أميتها ليست أمرًا لازمًا ولا مطلوبًا، وقد اجتهد عليه الصلاة والسلام أن يخرجها من أميتها بتعليم الكتابة، وبدأ بذلك منذ غزوة بدر، فلا مانع أن يأتي طور على الأمة تكون فيه كاتبة حاسبة . والحساب الفلكي العلمي الذي عرفه المسلمون في عصور ازدهار حضارتهم، وبلغ في عصرنا درجة من الرقي تمكن بها البشر من الصعود إلى القمر، هو شيء غير التنجيم أو علم النجوم المذموم في الشرع .
وأمَّا الاعتبار الآخر الذي ذكره النووي، وهو أن الحساب لا يعرفه إلا أفراد من الناس في البلدان الكبار، فقد يكون صحيحًا بالنسبة إلى زمنه ــ رحمه الله ــ ولكنه ليس صحيحًا بالنسبة إلى زمننا، الذي أصبح الفلك يدرس فيه في جامعات شتى، وغدت تخدمه أجهزة ومراصد على مستوى رفيع وهائل من الدقة . وقد أصبح من المقرر المعروف عالميًا اليوم : أن احتمال الخــطأ في التقـديرات العلمـية الفلكـية اليوم هو نســبة 1 ـ 00000 1 في الثانية!!.
"
ثم يقول : " وقد ذهب أبو العباس بن سريج من أئمة الشافعية، إلى أن الرجل الذي يعرف الحساب، ومنازل القمر، إذا عرف بالحساب أن غدا من رمضان فإن الصوم يلزمه ؛ لأنه عرف الشهر بدليل، فأشْبَهَ ما إذا عرف بالبينة . واختاره القاضي أبو الطيب ؛ لأنه سبب حصل له به غلبة ظن، فأشبه ما لَوْ أخـبره ثقة عن مشاهدة . وقال غيره : يجـزئهُ الصـوم ولا يلزمه . وبعضهم أجاز تقليده لمن يثق به. (انظر : المجموع 6/279، 280).
وقد ذهب بعض كبار العلماء في عصرنا إلى إثبات الهلال بالحساب الفلكي العلمي القطعي، وكتب في ذلك المحدث الكبير العلامة أحمد محمد شاكر ـ رحمه الله ـ رسالته، في " أوائل الشهور العربية : هل يجوز إثباتها شرعًا بالحساب الفلكي ؟ " وسنعود لنقل رأيه مفصلا .
ومـن المنـادين بهـذا الرأي في عصــرنا الفقــيه الكـبير الشــيخ مصطـفى الزرقـــا ـ حفظه الله ـ.
والذي يظهر من الأخبار أن الذي رفضه الفقهاء من علم الهيئة أو الفلك، هو ما كان يسمى " التنجيم " أو " علم النجوم " وهو ما يُدَّعَى فيه معرفة بعض الغيوب المستقبلية عن طريق النجوم، وهذا باطل، وهو الذي جاء فيه الحديث الذي رواه أبو داود وغيره عن ابن عباس مرفوعًا : " مَنْ اقتبس علمًا من النجوم اقتبس شعبة من السحر ". (رواه أبو داود في الطب (3905) وابن ماجة في الأدب (3726)، وأحمد في المسند (2000) وقال شاكر : إسناده صحيح، وصححه النووي في الرياض، والذهبي في الكبائر كما في فيض القدير 6/80).
وقال الإمام ابن دقيق العيد: الذي أقول : إن الحساب لا يجوز أن يُعتمد عليه في الصوم لمقارنة القمر للشمس على ما يراه المنجمون، فإنهم قد يقدمون الشهر بالحساب على الرؤية بيوم أو يومين، وفي اعتبار ذلك إحداث شرع لم يأذنْ به الله . وأما إذا دلَّ الحساب على أن الهلال قد طلع على وجهٍ يُرَي، لكن وُجِدَ مانع من رؤيته كالغيم، فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي . ا هـ .
وعقب على ذلك الحافظ ابن حجر بقوله : (لكن يتوقف قبول ذلك على صدق المخبر به، ولا نجزم بصدقه إلا لو شاهد، والحال أنه لم يشاهد، فلا اعتبار بقوله إذن، والله أعلم). (تلخيص الحبير مع المجموع 6/ 266، 267).
ولكن علم الفلك الحديث يقوم على المشاهدة بوساطة الأجهزة وعلى الحساب الرياضي القطعي . ومن الخطأ الشائع لدى كثير من علماء الدين في هذا العصر، اعتقاد أن الحساب الفلكي هو حساب أصحاب التقاويم، أو النتائج، التي تطبعُ وتوزع على الناس، وفيها مواقيت الصلاة، وبدايات الشهور القمرية ونهايتها، وينسب هذا التقويم إلى زيد، وذاك إلى عمرو من الناس، الذين يعتمد معظمهم على كتب قديمة ينقلون منها تلك المواقيت، ويصفونها في تقويماتهم .
ومن المعروف أن هذه التقاويم تختلف بين بعضها وبعض، فمنها ما يجعـل شـعبان (29) يومًا، ومنها ما يجعله (30)، وكذلك رمضان، وذو القعدة وغيرها .
ومن أجل هذا الاختلاف رفضوها كلها ؛ لأنها لا تقوم على علم يقيني ؛ لأن اليقين لا يعارض بعضه بعضًا . وهذا صحيح بلا ريب، ولكن ليس هذا هو الحساب العلمي الفلكي الذي نعنيه .
إن الذي نعنيه هو ما يقرره علم الفلك الحديث، القائم على المشــاهدة والتجربة، والذي غدا يملك من الإمكانات العلمية والعملية " التكنولوجية " ما جعله يصل بالإنسان إلى سطح القمر، ويبعث بمراكز فضائية إلى الكواكب الأكثر بعدًا، وغدت نسبة احتمال الخطأ في تقديراته (1 ـ 100000 )" واحدًا إلى مائة ألف " في الثانية . وأصبح من أسهل الأمور عليه أن يخبرنا عن ميلاد الهلال فلكيًا، وعن إمكان ظهوره في كل أفق بالدقيقة والثانية، لو أردنا .
رؤية الهلال لإثبات الشهر وسيلة متغيرة لهدف ثابت:
وفي كتابي : " كيف نتعامل مع السنة " عدت إلى الموضوع عند الحديث عن أحد المعالم الأساسية في فهم السنة، وهو : التمييز بين الهدف الثابت والوسيلة المتغيرة . وضربت لذلك أمثلة :
ثم قلت : ومما يمكن أن يدخل في هذا الباب : ما جاء في الحديث الصحيح المشهور : " صوموا لرؤيته ـ أي الهلال ـ وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له " وفي لفظ آخر " فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " .
فهنا يمكن للفقيه أن يقول : إن الحديث الشريف أشار إلى هدف، وعيّن وسيلة .
أما الهدف من الحديث فهو واضح بين، وهو أن يصوموا رمضان كله، ولا يضيعوا يومًا منه، أو يصوموا يومًا من شهر غيره، كشعبان أو شوال، وذلك بإثبات دخول الشهر أو الخروج منه، بوسيلة ممكنة مقدورة لجمهور الناس، لا تكلفهم عنتًا ولا حرجًا في دينهم.
وكانت الرؤية بالأبصار هي الوسيلة السهلة والمقدورة لعامة الناس في ذلك العصر، فلهذا جاء الحديث بتعيينها ؛ لأنه لو كلفهم بوسيلة أخرى كالحساب الفلكي ــ والأمة في ذلك الحين أمية ولا تحسب ــ لأرهقهم من أمرهم عسرا، واللَّه يريد بأمته اليسر ولا يريد بهم العسر، وقد قال عليه الصلاة والسلام عن نفسه : " إن اللّه بعثني معلمًا ميسرًا، ولم يبعثني معنتًا ". (رواه مسلم وغيره).
فإذا وجدت وسيلة أخرى أقدر على تحقيق هدف الحديث، وأبعد عن احتمال الخطأ والوهم والكذب في دخول الشهر، وأصبحت هذه الوسيلة ميسورة غير معسورة، ولم تعد وسيلة صعبة المنال، ولا فوق طاقة الأمة، بعد أن أصبح فيها علماء وخبراء فلكيون وجيولوجيون وفيزيائيون متخصصون على المستوى العالمي، وبعد أن بلغ العلم البشري مبلغًا مكن الإنسان أن يصعد إلى القمر نفسه، وينزل على سطحه، ويجوس خلال أرضه، ويجلب نماذج من صخوره وأتربته ! فلماذا نجمد على الوسيلة ــ وهي ليست مقصودة لذاتها ــ ونغفل الهدف الذي نشده الحديث ؟ ! "
__________________
معين بن محمد
|