عودة الأسد
*لم يمض كثيراً من الوقت حتى عاد الأسد الضارى عقبة بن نافع إلى قيادة الجهاد ببلاد المغرب وانتقل أبو المهاجر فى صفوف الجنود مجاهداً مخلصاً، وهكذا نرى خير الأمة ينتقل الواحد منهم من الرئاسة إلى عامة الجند بمنتهى اليسر والسهولة، بلا مشاكل أو اعتراض، وبلا أحقاد وأضغان، وذلك لأن الكل يبتغى مرضات الله ولا يريد شيئاً من عرض الدنيا الزائل .
*قرر عقبة بن نافع استئناف مسيرة الفتح الإسلامى من حيث انتهى أبو المهاجر، وكانت مدينة 'طنجة' هى أخر محطات الفتح أيام أبى المهاجر، وهنا أشار أبو المهاجر على عقبة ألا يدخل مدينة طنجة لأن 'كسيلة' زعيم البربر قد أسلم/ ولكن عقبة كان يشك فى نوايا وصحة إسلام كسيلة، فقرر الانطلاق لمواصلة الجهاد مروراً بطنجة وما حولها، خاصة وأن للروم حاميات كثيرة فى المغرب الأوسط .
الإعصار المدمر
*انطلق عقبة وجنوده من مدينة القيروان، لا يقف لهم أحدن ولا يدافعهم أى جيش، فالجميع يفرون من أمامهم، وكلما اجتمع العدو فى مكان، انقض عقبة ورجاله عليهم كالصاعقة المحرقة ففتح مدينة 'باغاية' ثم نزل على مدينة 'تلمسان' وهى من أكبر المدن فى المغرب الأوسط وبها جيش ضخم من الروم وكفار البربر، وهناك دارت معركة شديدة استبسل فيها الروم والبربر فى القتال وكان يوماً عصيباً على المسلمين، حتى أنزل الله عز وجل نصره على المؤمنين، واضطر الأعداء للتراجع حتى منطقة 'الزاب'
*سأل عقبة عن أعظم مدينة فى الزاب فقيل له 'أربة' وهى دار ملكهم وكان حولها ثلاثمائة وستون قرية عامرة، ففتحها عقبة، والروم يفرون من أمامه كالفئران المذعورة، ورحل عقبة بعدها إلى مدينة 'ثاهرت' فأرسلت الحامية الرومية استغاثة لقبائل البربر الوثنية فانضموا إليهم فقام عقبة فى جيشه خطيباً بارعاً بعبارات فائقة تلخص رسالة المجاهد فى سبيل الله فقال [أيها الناس إن أشرفكم وخياركم الذين رضى الله تعالى عنهم وأنزل فيهم كتابه، بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان على قتال من كفر بالله إلى يوم القيامة، وهم أشرفكم والسابقون منكم إلى البيعة، باعوا أنفسهم من رب العالمين بجنته بيعة رابحة، وأنتم اليوم فى دار غربة وإنما بايعتم رب العالمين، وقد نظر إليكم فى مكانكم هذا، ولم تبلغوا هذه البلاد إلا طلباً لرضاة وإعزازاً لدينه، فأبشروا فكلما كثر العدو كان أخزى لهم وأذل إن شاء الله تعالى، وربكم لا يسلمكم فالقوهم بقلوب صادقة، فإن الله عز وجل قد جعل بأسه على القوم المجرمين ] وبهذه الكلمات الموجزة استثار عقبة حمية رجاله، وأعطى درساً بليغاً للأجيال من بعده عن حقيقة دعوة المجاهد .
*التقى المسلمون بأعدائهم وقاتلوهم قتالاً شديداً وكانت نتيجته معروفة بعدما وصلت معنويات المسلمين لقمم الجبال، وانتصر المسلمون كما هى عادتهم، وسار عقبة حتى نزل على 'طنجة' فلقيه أحد قادة الروم واسمه 'جوليان' فخضع لعقبة ودخل له الجزية، فسأله عقبة عن مسألة فتح الأندلس فقال له 'جوليان' أتترك كفار البربر خلفك وترمى بنفسك فى بحبوحة الهلاك مع الفرنج ؟ فقال عقبة وأين كفار البربر ؟ فقال فى بلاد السوس وهم أهل نجدة وبأس فقال عقبة وما دينهم ؟ قال ليس لهم دين فهم على المجوسية .
فتوجه إليهم عقبة كالإعصار الكاسح الذى يدمر كل شىء بإذن الله واخترق هذه البلاد كلها هازماً لكل قبائل البربر حتى وصل بخيله إلى المحيط الأطلنطى فخترق عقبة بفرسه ماء المحيط ثم قال بقلب المؤمن الصادق الغيور الذى بذل واستفرغ كل جهده وحياته لخدمة الإسلام [يا رب لولا هذا البحر لمضيت فى البلاد مجاهداً فى سبيلك، اللهم اشهد إنى قد بلغت المجهود، ولولا هذا البحر لمضيت فى البلاد أقاتل من كفر بك حتى لا يعبد أحد دونك ]
** وبهذه النفوس الصادقة والقلوب المؤمنة والعزائم الفائقة انتشر الإسلام فى ربوع الأرض
استشهاد البطل
حقق عقبة غايته من حركة الفتح الإسلامى بالشمال الإفريقى، فلقد أخضع قبائل البربر وأوقع بها بأساً شديداً حتى وصل إلى أقصى بلاد المغرب واقتحم المحيط بفرسه، وبعدها قرر عقبة العودة إلى القيروان فلما وصل إلى طنجة أذن لمن معه من الصحابة أن يتفرقوا ويقدموا القيروان أفواجاً ثقة منه بما نال من عدوه، ومال عقبة مع ثلاثمائة من أصحابه إلى مدينة 'تهوذة' فلما رأه الروم فى قلة من أصحابه طمعوا فيه، وأغلقوا باب الصحن وشتموه وهو يدعوهم إلى الإسلامن وعندها أظهر 'كسيلة' مكنون صدره الذى كان منطوياً على الكفر والغدر والحسد، واستغل قلة جند عقبة واتفق مع الروم على الغدر بعقبة وأرسل إلى إخوانه البربر الوثنيين وجمع جموعاً كثيرة للهجوم على عقبة ومن معه
*كان أبو المهاجر فى ركب عقبة ولكن عقبة قد غضب منه فقيدة، فلما رأى أبو مهاجر هجوم كسيلة
ومن معه أنشد أبيات أبى محجن الثقفى المشهورة
كفى حزناً أن ترتدى الخيل بالقنا **** وأترك مشدوداً على وثاقيا
إذا قمت عنانى الحديد وأغلقن ****** مصارع دونى قد تصم المناديا
ففك عقبة وثاقة وقال له [الحق بالقيروان وقم بأمر المسلمين وأنا أغتنم الشهادةي فقال أبو المهاجر [وأنا أيضا أريد الشهادة] وكسر عقبة والمسلمين أجفان سيوفهم واقتتلوا مع البربر حتى استشهد عقبة وكل من معه فى أرض الزاب بتهوذة وذلك سنة 63 هجرية .
*كان عقبة بن نافع رضى الله عنه مثالاً فى العبادة والأخلاق والورع والشجاعة والحزم والعقلية العسكرية ارستراتيجية الفذة، والقدرة الفائقة على القيادة بورع وإيمان وتقوى وتوكل تام على الله عز وجل فأحبه رجاله وأحبه أمراء المؤمنين، وكان مستجاب الدعوة، ميمون النقيبة، مظفر الراية، فلم يهزم فى معركة قط، طبق فى حروبه أحدث الأساليب العسكرية والجديدة فى تكتيكات القتال مثل مبدأ المباغتة وتحشيد القوات وإقامة الحاميات وتأمين خطوط المواصلات واستخدام سلاح الاستطلاع، ونستطيع أن نقول بمنتهى الحيادية أن البطل عقبة بن نافع قد حقق أعمالاً عسكرية باهرة بلغت حد الروعة والكمال وأنجز فى وقت قليل ما لا يصدقه عقل عند دراسته من الناحية العسكرية البحتة، وترك باستشهاده أثراً كبيراً فى نفوس البربر وأصبح من يومها يلقب بسيدى عقبة .
كتبه: شريف عبد العزيز
shreef@islammemo.cc
ــــــــــــــــــــ
المصادر
1. تاريخ الرسل والملوك.
2. الكامل فى التاريخ .
3. البداية والنهاية .
4. سير أعلام النبلاء .
5. تاريخ الخلفاء .
6. أطلس تاريخ الإسلام .
7. قادة فتح بلاد المغرب العربى .
8. فتوح البلدان .