حكم معاهدات الصلح والسلام مع اليهود وموقف المسلم منها
د. عبد الرحمن عبد الخالق
بسم الله الرحمن الرحيم {الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين}.
والصلاة والسلام على المبعوث بالدين القويم، والصراط المستقيم، والجهاد بالسيف إلى يوم الدين، وعى آله وأصحابه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين، وبعد..
فإن الأمة الإسلامية قد ابتليت في هذه السنوات بكارثة عظيمة لم تكن قبل وقوعها في الحسبان ولم يكن أحد من أهل الإسلام يحسب أو يظن أن يقع هذا في أمة الإسلام، ألا وهو انتصار اليهود وهم شرذمة قليلة على أمة الإسلام، وذلك في أربع حروب متتابعة، قاتل اليهود فيها وهم صف واحد أمة الإسلام وهم صفوف مختلفة، قد حملوا شعارات تخالف الإسلام من القومية والوطنية والإقليمية أو مجرد الدفاع عن الأرض، وقد هزم العرب المسلمون أمام أعدائهم اليهود هزائم لم يعرف التاريخ لها مثيلاً.. ثم إن العرب المسلمين الذين نالتهم هذه الهزائم تنادوا إلى وجوب الصلح والسلام مع اليهود، وأنه لا حيلة أمامهم إلا ذلك، متعللين بأن اليهود تساندهم أمم الغرب وأمريكا، والعرب المسلمون لا حول لهم ولا سلطان.
وبعد أن مدوا أيديهم للصلح مع اليهود عقد بعضهم معهم معاهدات سموها معاهدات سلام، ولما كانت هذه المعاهدات بما انطوت عليه من شروط باطلة، أشد خطراً وأكبر من الهزيمة في الحرب وكان الناس يسألون ما موقف المسلم اليوم من اليهود؟ وما موقفه من هذه المعاهدات التي أبرمت؟ وكان الله سبحانه وتعالى قد أخذ الميثاق على من أوتي علماً أن يبينه ولا يكتمه فإنني أحببت أن أكتب مختصراً في الموقف الشرعي الواجب على أبناء الأمة الإسلامية من هذه المعاهدات التي سموها معاهدات السلام.
أولاً: مقدمات:
فأقول والله المستعان:
1- اليهود أعداء دائمون لهذه الأمة منذ بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم رسالته وإلى أن يخرج الدجال:
اليهود أعداء هذه الأمة منذ بدأ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله، وستظل عداوتهم لهذه الأمة إلى قيام الساعة، ولقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم الحرب معهم مبكراً فحارب بني قينقاع لغدرهم، وانتصر عليهم، وأخرجهم من المدينة، ثم بني النضير لغدرهم وأخرجهم من المدينة، ثم بني قريظة لغدرهم وخيانتهم، ثم فتح خيبر وكانت منطلقاً لدسائسهم، ثم أجلاهم عمر بن الخلاطب رضي الله عنه عن الجزيرة العربية كلها وانتقل عداؤهم بعد هزائمهم إلى الكيد الخفي، فكانوا وراء جميع الفرق الباطنية، ومعظم الفتن الداخلية في أمة الإسلام، ثم كانوا وراء إنهاء آخر خلافة للمسلمين وهي خلافة بني عثمان، وهم الذين حولوا وجهة دول الغرب النصرانية لحرب الإسلام، ومكرهم بالإسلام وأهله لا تحويه المجلدات.
ولايزال عداؤهم بالمسلمين إلى أن يستصرخ الحجر والشجر المسلم قائلاً: «يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله» وحتى يخرج آخرهم في ركاب الدجال.
وعداء اليهود لأهل الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم إنما كان حسداً وبغياً، حسداً أن تنتقل الرسالة والنبوة من فرع إسحاق إلى فرع إسماعيل، وأن يكون العرب الأميون هم سادة الدنيا بكتاب الله ودينه و شرعه قال تعالى: « بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين». (البقرة: 90).
وهم بدأو العداوة، واستمروا عليها، ولايزالون عليها كما قال تعالى: «وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين». (المائدة: 64).
ومن ظن أن الحرب والعداوة توضع بين المسلمين واليهود فهو مكذب بوعد الله، ودينه، ومن عمل لإزالة هذه العداوة والبغضاء بين المسلمين واليهود فهو كافر بالله سبحانه وتعالى، فإن أصل الإيمان الحب في الله والبغض في الله، ولا يجوز لمسلم أن يجمع في قلبه بين حب الله والمؤمنين وموالاة أعدائه «قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده». (الممتحنة: 4).
فلا موادة بين المسلم والكافر إلا أن يصبحا كافرين أو مسلمين.. فإما أن يدخل الكافر في الإسلام فيكون أخاً لنا نحبه ونواليه، وإما أن يخرج المسلم من الإسلام فيكون محباً وأخاً للكافر «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياً بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين». (المائدة: 51)
2- لا دعوة للمسلم إلا إذا ذل الكافر واستسلم أو كان دفعاً لمفسدة أكبر بارتكاب مفسدة أقل:
الأصل في العلاقة بين المسلمين والكفار هي العداوة والحرب وذلك لقوله تعالى: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله» وقوله تعالى: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون». (التوبة: 29).
والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جداً وكلها تأمر أن يباشر المؤمنون القتال حتى يكون خضوع الجميع لدين الله وشرعه إما طوعاً وإما إذلالاً وقهراً.
ولم يسمح الله لأمة الإسلام أن تدعو إلى السلم مع الكفار إلا في إحدى حالتين:
أ- أن يذل الكفار ويضعفوا وتخور قواهم ويجنحوا إلى السلم، فعند ذلك يكون السلم في صالح المسلمين لأن عقيدتهم أقوى، وفعلهم أكبر، وبذلك يفتح المجال لدخول الناس في الدين كما كان الشأن بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ حربهم في بدر، ثم أحد ثم الخندق ثم ثم الحديبية، وقد بايع أصحابه على الموت في الحديبية لما أخبر بأن قريشاً قد قتلت سفيره عثمان بن عفان رضى الله عنه، ولم يجنح الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السلم مع قريش إلا بعد أن جنحوا هم، وأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي، وهذا لقوله تعالى: «وإن جنحوا للسلم فاجنح لهاوتوكل على الله»(الانفال: 61) وكان هذا الصلح والسلام في صالح المؤمنين تماماً فقد دخل أكابر الناس في الإسلام في مدةالصلح.
ب- أن يكون الصلح من باب ارتكاب أخف الضررين فيلجأ المسلمون إليه دفعاً لمصيبة أعظم كما هم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصالح غطفان على نصف ثمار المدينة حتى يفك تحالفهم مع قريش، وينفرد النبي صلى الله عليه وسلم بقتال قريش بعد ذلك.
وأما في غير هاتين الحالتين فإنه لا يجوز للمسلمين الدعوة إلى السلام كأن يكون ركوناً إلى الدنيا وكراهة للجهاد أو خوفاً من كثرة الكفار، وذلك أن أهل الإيمان ينصرون مع قلتهم على الكفار مع كثرتهم، وهذه سنة الله الجارية أبداً في عباده «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين» (البقرة: 249) «ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً، سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنه الله بديلاً». (الفتح: 22 -23).
وأما الدعوة إلى السلم بمعنى ترك الحرب نهائياً، ومصالحة الكفار أبداً، ونبذ الحرب والقتال مطلقاً، فهذا كفر بالله تعالى مخرج من ملة الإسلام، وإلغاء لفريضة الجهاد التي جعلها الله فرضاً على كل مسلم إلى يوم القيامة كما قال تعالى: «كتب عليكم القتال وهو كره لكم» (البقرة: 216) وكتب بمعنى فرض، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية». (رواه مسلم والنسائي وأحمد والترمذي.
فالجهاد ماض بعد فتح مكة إلى يوم القيامة، وهو إما خروج بالنفس وهذا الفرض العيني، وإما نية دائمة لكل مسلم يجب أن يصحبها دائماً، ويموت عليها، فيكون مستعدا لمزاولة القتال في كل حال، قائماً به في حال الوجوب العيني، وإلا أثم إذا ترك الفرض العيني.
3- لا يجوز للإمام المسلم أن يشترط في صلحه مع الكفار شرطاً يخالف الكتاب والسنة ودين الإسلام:
معلوم من الإسلام ضرورة أنه لا يجوز للإمام والقائد المسلم في صلحه الجائز مع الكفار أن يشارطهم على شيء يخالف القرآن والسنة.. وكل شرط يخالف هذه الأصول فإنه يقع باطلاً.
فالشروط التي يجوز اشتراطها مع الكفار هي الشروط الجائزة فقط، كعقد هدنة للحرب سواءً كانت مؤقتة بوقت محدد، كما صالح الرسول صلى الله عليه وسلم قريشاً على وضع الحرب عشر سنين، أو كانت غير مؤقتة بوقت محدد كما صالح الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود في المدينة ووادعهم دون تحديد هذا بزمن معين.
فالهدنة والصلح شرط جائز يجوز للإمام المسلم إبرامه مع الكفار، وكذلك مصالحتهم على شيء يدفعونه للمسلمين أو شيء من المال يدفعه المسلمون اضطراراً أو نحو ذلك من الشروط الجائزة.
وأما الشروط الباطلة فمثالها أن يشارطهم على أن يتنازل المسلمون عن شيء من دينهم كالصلاة أو الصوم أو الجهاد، أو الحكم بما أنزل الله، فإن هذا ومثله كفر بالله تعالى، وتبديل لشرعه ودينه، وترك من المسلمين لدينهم وعقيدتهم من أجل إرضاء الكفار وهذا كفر بالله تعالى.
|