عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 02-11-2005, 04:23 PM
أحمد ياسين أحمد ياسين غير متصل
من كبار الكتّاب
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2005
الإقامة: فرنسا
المشاركات: 6,264
إفتراضي

وقال آخرون: هي قوله تعالى في نفس السورة(وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً) التوبة: 36.

وقال فريق ثالث هي آية الجزية ( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) التوبة: 29.

وقد ناقشنا هذه الدعوة وفندناها بالأدلة الناصعة في كتابنا (فقه الجهاد)(10).

وملخص ذلك: أننا لسنا في حاجة إلى القول بالنسخ الذي قال به كثير من العلماء من المفسرين والفقهاء، حتى زعم بعضهم: إن آية واحدة هي التي سموها آية السيف- نسخت 114- مائة وأربع عشرة آية، أو أكثر من ذلك.

والنسخ لا يثبت بمجرد الاحتمال، والأصل في آيات الكتاب: الإحكام والثبوت، واليقين لا يزال بالشك.

كما أننا لسنا في حاجة إلى القول بالإنساء الذي قال به الزركشي وتبعه السيوطى، ومعهما بعض المعاصرين. وقد ضعفنا هذا القول من جهة النقل ومن جهة النظر.

والواجب أن ننظر فى الآيات نظرة مستقلة، نجمع بينها في تناسق، ونضع كل آية في موضعها بلا تعارض ولا تناقض.

ومن العلماء من حمل الآيات التي تدعو إلى قتال المشركين كافة، وتأمر المسلمين أن يقتلوهم حيث ثقفوهم، ويحصروهم ويقعدوا لهم كل مرصد، ونحو ذلك من الآيات التي يفهم منها مبادأة الكفار بالقتال ، وإن لم يكن منهم عدوان على المسلمين... حملوا هذه النصوص على أنها في حالة القوة والتمكين والعلو من المسلمين. أما آيات الدعوة إلى المسالمة والصفح والعفو، والكف عن المسالمين والترغيب في برهم والإقساط إليهم...إلى آخر تلك النصوص، فهذه ليست منسوخة، بل هى (منسأة) أى مؤخر العمل بها في حالات الضعف الذي تنزل بالمسلمين.

وعلى هذا لا نسخ بين آيات القتال بعضها وبعض، بل يعمل بآيات الهجوم في حالة قوة المسلمين، وآيات الدفاع والمسالمة في حالة ضعف المسلمين.

وأبرز من قال هذا: الإمام برهان الدين الزركشي في كتابه ( البرهان في علوم القرآن) في حديثه عن النسخ فقد قال بصريح العبارة:


الثالث: ما أمر به لسبب ثم يزول السبب؛ كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر وبالمغفرة للذين يرجون لقاء(11) الله ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحوها، ثم نسخه إيجاب ذلك. وهذا ليس بنسخ في الحقيقة، وإنما هو نسء؛ كما قال تعالى (أو ننسئها) البقرة: 106، فالمنسأ هو الأمر بالقتال، إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى.

قال الزركشي: (وبهذا التحقيق تبيَّن ضعفُ ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف: أنها منسوخة بآية السيف، وليست كذلك، بل هي من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا.

وإلى هذا أشار الشافعي في (الرسالة) إلى النهي عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة(12)، ثم ورد الإذن فيه، فلم يجعله منسوخا، بل من باب زوال الحكم لزوال علته؛ حتى لو فجأ أهل ناحية جماعة مضرورون تعلق بأهلها النهي.

ومن هذا قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم…) المائدة:105، كان ذلك في ابتداء الأمر(13)، فلما قوى الحال وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمقاتلة عليه. ثم لو فرض وقوع الضعف كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:" بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ"(14) عاد الحكم، وقال صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت هوى متبعا، وشحا مطاعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك"(15).

وهو سبحانه وتعالى حكيم أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم حين ضعفه: ما يليق بتلك الحال، رأفة بمن تبعه ورحمة، إذ لو وجب لأورث حرجا ومشقة؛ فلما أعز الله الإسلام وأظهره ونصره، أنزل عليه من الخطاب ما يكافئ تلك الحالة من طالبة الكفار بالإسلام، أو بأداء الجزية – إن كانوا أهل كتاب- أو الإسلام أو القتل إن لم يكونوا أهل كتاب.

ويعود هذان الحكمان – أعني المسالمة عند الضعف والمسايفة (استخدام السيف) عند القوة – بعود سببهما، وليس حكم المسايفة ناسخا لحكم المسالمة، بل كل منهما يجب امتثاله في وقته(16). انتهى.

وذكر ذلك الحافظ جلال الدين السيوطى في كتابه المعروف (الإتقان في علوم القرآن)وإن لم يعزها إلى (الزركشي) كما اعتاد أن يفعل.

وقد رضي هذا القول أوهذا التأويل بعض العلماء المعاصرين، ورتبوا عليه ما سموه: فقه التمكين، وفقه الاستضعاف، وتفاوت الأحكام بتفاوت الحال من التمكين والقوة، أو الوهن والاستضعاف.


* رأيي في هذا التأويل:

وهذا التأويل في نظري ضعيف وغير سليم، من جهة النقل والأثر، ولا من جهة الرأي والنظر.

فأما من جهة النقل, فإن الناظر في النصوص القرآنية التى استدل بها دعاة القتال (الهجومي) على فكرتهم، والأخرى التى استدل بها دعاة الجهاد (الدفاعي) على فكرتهم يجد أن هذه وتلك: كلها نجدها في السورة الواحدة.

فنجد في سورة البقرة قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ) لبقرة 116 الآية،التى يستدل بها الهجوميون،ونجد كذلك الآية الأخرى التى يستدل بها الدفاعيون، مثل قول الله تعالى وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِين) البقرة:119، وقوله وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ *الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ)البقرة: 193 ,194. ونجد في سورة الأنفال قوله تعالى وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه)الآية:40, وفي نفس السورة قوله سبحانهوَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) الآية:61.

وفي سورة التوبة: نجد عدة آيات اشتهرت بأنها (آية السيف)، لعلّ أشهرها قوله تعالى فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) التوبة :4 ،ومع هذا نجد الآية التالية تقولوَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ) التوبة:5.

وبعدها يقول تعالى إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)الآية:6.
وبعدها بآيات يقول أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ) الآية:13, فدل على أن مقاتلتهم إنما طلبت بعد ما قدمت أيديهم من مظالم وإساءة للمسلمين، فقد نكثوا الأيمان، وهموا بإخراج الرسول ، وبدأوا المسلمين بالعدوان.

وفي سورة المائدة، وهي من أواخر ما نزل من القرآن، نجد قوله تعالى في شأن أهل الكتاب وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) المائدة 13.

ومن جهة الرأي والنظر: نرى أن هذا القول أو التفسير يظهر: أن المعايير الأخلاقية للإسلام ليس لها ثبات ولا شمول، وأنها تتغير بتغير القوة والضعف، فيجوز في حال القوة ما لا يجوز في حال الضعف. فإذا كان المسلمون أقوياء مقتدرين يجوز لهم أن يفزعوا الآخرين، ويحتلوا ديارهم، ويفرضوا عليهم الجزية وهم صاغرون كما يفعل الأمريكان اليوم, الذين يرون من حقهم الحكم في العالم لأنهم يملكون أعظم قوة عسكرية واقتصادية في العالم.

وإذا كان المسلمون في حالة ضعف ووهن: جاز لهم أن يتركوا الجهاد والغزو، وأن يكتفوا بالكمون داخل حدودهم؛ حتى تواتيهم القوة!!

وهذا أشبه بالنظرية الميكافيلة التي ترى أن ( الغاية تبرر الوسيلة) وهذا ما ترفضه الأخلاقية الإسلامية التي تقوم على ثبات القيم وشمولها، وترفض أن تصل إلى الغاية الشريفة بوسيلة غير نظيفة.


الهوامش:

[1] رواه أبو داود (3927) والنسائي (4654) عن علي بن أبي طالب.
[2] متفق عليه كما في اللؤلؤ والمرجان (1204) رواه البخاري في الجهاد (2957) ومسلم في الإمارة (38/1939) عن أبي هريرة.
[3] انظر : "السياسة الشرعية" في مجموع فتاوى شيخ الإسلام (28/359،358).
[4] رواه أحمد )17941،17940) وأبو داود (5004). ورواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات كما قال المنذري في الترغيب والترهيب ( المنتقى /1689) والهيثمي في المجمع ( 6/254) . وصححه الألباني في " غاية المرام " (447)
[5] رواه أحمد في مسنده عن فضالة بن عبيد (22833)، ورواه الترمذي (2551) والنسائي (4909) عن أبي هريرة، وصححه الألباني في سلسلة الصحيحة ( 249) .
[6] رواه النسائي في كتاب تحريم الدماء من سننه (7/82 ،83) عن عبد الله بن عمر، وروى نحوه من حديث بريدة، ورواه الترمذي في الديات (1395) مرفوعا وموقوفا، ورجح الموقوف، ورواه ابن ماجه عن البراء بن عازب (2619) وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله موثقون. وحسنها الحافظ ابن حجر في التلخيص، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5078).
[7] رواه مسلم عن أبي هريرة في كتاب (4650) وهو من أحاديث الأربعين النووية.
[8] رواه سعيد في سننه (2/234) وعبد الرزاق في المصنف (5/223-224) الأثران: 9438و9439) وأصل الحديث متفق عليه. انظر: اللؤلؤ والمرجان (193).
[9] رواه البخاري في الجزية والموادعة (3166) عن عبد الله بن عمرو.
[10] تحت الطبع, وتقوم بطبعه مكتبة وهبة
[11] إشارة إلى الآية 14 من سورة الجاثية. ونصها: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) فالآية تنفي أنهم يرجون لقاء الله. فلعل لكمة (لا) حذف من ناسخ أو طابع.
[12] في الأصل (الرأفة) وهو تحريف ناسخ أو طابع يقينا. والدافة: القوم الذين دفوا أي دخلوا على المدينة من خارجها.
[13] هذا غير مسلّم، فهذ الآية في سورة المائدة، وهي من أواخر ما نزل من القرآن، فلا يعتبر ما نزل فيها (في ابتداء الأمر) .
[14] رواه مسلم (146).
[15] رواه أبو دادود في الملاحم (4341) والترمذي في التفسير (3060) وقال: حسن غريب وابن ماجه في الفتن (4014) والحاكم وصححه (4/322) ووافقه الذهبي. أما حديث "بدأ الإسلام غريبا" فقد رواه مسلم في صحيحه.
[16] البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/ 42، 43) طبعة عيسى الحلبي، بتحقيق أبو الفضل إبراهيم.