الموضوع: هذا الذي يحدث
عرض مشاركة مفردة
  #7  
قديم 11-12-2005, 09:50 AM
عبدالحميد المبروك عبدالحميد المبروك غير متصل
عضو جديد
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2005
المشاركات: 172
إفتراضي ما الذي يحدث ... 2

ما الذي يحدث ...
2
لا أدري لماذا عادت به الذاكرة هذه الليلة إلى الماضي.. الماضي الذي ماتت أيامه..وتبخرت أحلامه..ونخرت عظام أناسه....
ولا يدري ما الذي حمله على ذكره .. ونبش عظامه ؟
ولا يدري ما الذي يغريه بأن يتلمسه من الواقع؟
هو يعلم أن الماضي قد ذهبت مسراته وأحزانه ولم يبق في يده منه إلا الذكريات التي طالما حاول أن يلقي بها في الزاوية المظلمة من نفسه لتنام فيها إلى الأبد، رغم أنها كانت تستفيق فيها كلما أراد نسيانها فتسوّد صفحة الحياة أمام عينيه حتى لم يعد يرى فيها جميلا ... ولا بهيا ...و لا يتطعم فيه حلوا أو بنينا...وهو يعلم كذلك أن أحلامه التي بناها بقطع قلبه وأنقاض أيامه وروى رياضها بدموعه قد جفت زهورها وأنهارها و يبست أغصانها وإنهارت أمام عينيه دفعة واحدة وكأنها بيوتا من ورق ضربته كف إنسان أو نفخت عليه ريح... فيئس منها وذهب يعيش بقلب محطم وكبد ممزق...رغم ضحكه وممازحته للآخرين حتى ليظنه الناس أسعد الناس وهو أشقاهم وأخيبهم أملا ..وأشدهم ألما...!
أطل من نافذة الغرفة بفندق تيبستي على شارع جمال عبدالناصر في مدينة بنغازي. هذا الشارع الذي يمثل حياة يفسرها ويصور حقيقتها أكثر من تصوير الأدباء وتفسير الفلاسفة... مثله مثل شارع الرشيد بطرابلس وزقاقه المختلفة وكأني به صورة من داخل زقاق المدينة القديمة بطرابلس أو الدار البيضاء أو تونس....بل إن ساعة واحدة تشرف فيها على مثل هذه الأماكن و شارع جمال عبدالناصر ومنطقة سيدي حسين تحديدا ، أجدى على الفرد في فهم الحياة من دراسة عشرات السنين في تلك الكتب التي إكتضت بها مكتبته في بيته بمدينة طرابلس.
ماذا في الكتب ؟
ماذا في الكتب إلا الحيرة ....!
ومن ذا الذي تبلغ به الحماقة وتفيض على نفسه حتى يدعي أنه فهم الحياة من الكتب..!
وهو الآن أحد صرعاها وضحاياها.
فهل من سائل عن الخيبة !؟ وهل من سائل عن الخسائر !؟.
قالت الكتب : ـ إن المستقيم أقصر الطرق فاسلكه تصل.... إستقم تبلغ الغاية.
والإلتزام بإتباع هذا القول أو هذه القاعدة والسير عليها إصطدام بأول جدار وإنطراح في الزمان والمكان مكسور الرأس.
والغير يسير ويلتوي كما تستدير طرق الحياة وتلتوي.... فيصل إلى ما لم يصل له غيره حتى لو عاش عمر نوح...!!!!!!!!قالت الكتب : ـ كن فاضلا ، و إحرص على مكارم الأخلاق فهي السبيل . وبالحرص على ذلك تجد أهل الرذيلة يصلون. وإن أسفل الناس أخلاقا صار أستاذا للأخلاق...فيا عجبا لسخرية الحياة...!
قالت الكتب : ـ الحق ...وقالت الحياة القوة... مالا أو جاها أو جهدا.. من خيانة الأمانة إلى الجحود وعدم الوفاء والمكائد والدسائس وتنغيص حياة الآخرين...
قالت الكتب : ـ الفضائل ...وقالت الحياة الشهوات.. بجميع أشكالها وأنواعها من أشهي المأكولات إلى تجارة الرقيق والأطفال..
قالت الكتب : ـ الكثير الكثير.. لكن لم يكن إلا ما قالته الحياة . هذا هو الذي يحدث ...الواقع ...الحقيقة....لا الخيال...
وبنظرة إلى شارع جمال عدالناصر ...بمنطقة سيدي حسين بمدينة بنغازي.. فإذا السيارات من كل نوع ولون .... كلها تعدوا ..الكل يريد أن يصل أولا...وأن يخترق الإشارة الضوئية أولا ..ويدخل للشارع الرئيسي من الشوارع الفرعية أولا ... الكل يزاحم ...الكل يزأر .... فتضطر أن تقول لنفسك هكذا هي الحياة.!
سباق ...تزاحم...ضوضاء... تدافع... لكن ما هي الغاية..؟
لاشيء...لاشيء!
في تلك العزلة ... وتلك المشاهد رن جرس الهاتف فقطعت نغمته الصور والمشاهد والعزلة ...وكان على الخط الثاني أحد الأصحاب في مدينة بنغازي..رجل ملك على صاحب آخر أمره..فأعجبه حتى غدا لا يصبر على سماع نكاته وفكاهته...وأعجبه حتى جعله معه في نفس المحنة...
ومنها أن الثعلب كبر وطلب من أمه أن تخطب له..ففرحت الثعلبة أيما فرح بذلك لأنه سيصير لها كنة وتصبح بعدها جدة..سألت الثعلبة إبنها ثعيلب عن إبنة الحسب والنسب التي يرغبها ، فكانت إجابته أنه يختار إبنة ملك الغابة شبيلة ...فاستغربت الأم من هذه القفزة التي إن لم تفرحها فقد أفزعتها..وحاولت إقناعه بالعدول عن رأيه إلا أنه أبى وأصر بشدة فما كان من الأم إلا أن قصدت ملك الغابة و طلبت منه الأنس وكان ما كان لها من عظيم الغابة مما أشرفها على الموت...
ومن أجل أن يعرف ثعيلب ما حدث لأمه قررت أن ترسله إلى الأسد بحجة رغبته في أن يراه ويطمئن إلى أنه يستحق إبنته...إلا أن ثعيلبا تذاكى فأصر على أن لا يقوم بزيارة ملك الغابة إلا بمرسول من أمه يحمله للأسد...وكان له ما طلب...وحدث له ما حدث لأمه عند ولوجه عرين الأسد لدرجة أنه فقد ذيله الذي كان يختال به أمام حيوانات الغابة...وحينما عاد وسألته أمه عن الجروح والدماء التي كانت تسيل من جسمه وذيله الذي فقده ، كان رده عليها ... يا أماه هاتي من يقرأ ويكتب يا ...
مفارقة طبيعية أن لا يتزوج الثعلب إبنة الأسد.. فلكل جنسه...وكذلك ما فعله الأسد بثعيلب...
هكذا كانت فكاهات ذلك الصاحب ..مواضيع فلسفية تحتها ما لايخطر على بال ..ولا يدري أحد من هو الذي وضعها ونظمها ...وهل يستطيع جيل بعده أن يشترك في الإضافة عليها ويزيدها دورا آخر فيكوّن منها الصورة الصادقة للمجتمع وهواجسه وأمانيه ...............
رجعت هذه النكتة وأمثالها الذاكرة إلى سالفات الأيام. فهب يعرض صور حياته فيها وهي تمر به متتالية متعاقبة كصور السينما ملتفة بضباب الماضي . فتبرز منها المآسي المغسولة بالدموع والفواجع. فلا صورة للبهجة والسرور ، وأي بهجة وأي سرور بعد الخمسين.!
كان التفكير دائبا في المستقبل .. وكان ينتظر . فها هو المستقبل قد صار حاضرا ...فهل فيه غير الخيبة والألم.
لقد جرب هوايات كثيرة ، وطاف في أرض الله شرقها وغربها ، شمالها وجنوبها...من أعالي الجزر البريطانية إلى غياهب الصحراء الكبرى .. من أوكسفورد إلى ورزازات ، إلى واو الناموس...من رأس الخيمة إلى صلالة .. من بحر البلطيق إلى البحر الأسود....وقرأ من الأدب والتاريخ والفقه والعلوم... من الكتب الصفراء وكتب ملوك الجان إلى الكتب الحديثة وثقافة الإنترنت ...فما أفاد من ذلك كله . إلا أنه ترك في كل مكان قبرا لأمل من آماله ، وعلى كل صفحة صورة من صوره...لقد أضاع الحب والمال والجاه .. وأضاع المجد الأدبي ...فهو لا يستقر به قرار...... كتاباته التي كانت تدور في نفسه ضاعت منه ...قصائده، خواطره،.. وكل ما يكتبه على الورق ....حتى أنه لم يسمع الناس صوته... فقد كان يقتصر ذلك على نفسه وعدد ضئيل من الأصحاب لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة ...والذين كانوا يشجعونه على الإستمرار ويوجهونه في ذلك و أن يكتب الخاطرة أو القصيدة أو الرؤية في حينها كيفما تكون، قائلين له سيأتي الزمن الذي تنشر فيه ويسمعها كل الناس...
الرد مع إقتباس