الموضوع: هذا الذي يحدث
عرض مشاركة مفردة
  #8  
قديم 11-12-2005, 09:52 AM
عبدالحميد المبروك عبدالحميد المبروك غير متصل
عضو جديد
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2005
المشاركات: 172
إفتراضي ما الذي يحدث 2 ( تابع )

المستقبل .. المستقبل هذا الذي صار حاضرا اليوم. مستقبل عدم. وحاضر عدم. فهل من يوم بالعودة للماضي ليعيش فيه ؟ .
فيا ويح النفس. هل بقي مستقبل إلا الموت.؟! الذي غدى يحبه و يناديه ولو كان يسمع النداء وهو كاره.!
ذلك الماضي الذي دفن فيه أبيه وشقيقه الوحيد . ودفن معه أحلامه..وآماله ...
لقد أحبه كثيرا وتألم أكثر مما أحب. لكن الحب الحقيقي الواحد الذي إنطوى عليه قلبه والألم الفرد الصادق الذي عرفه هو حبه لشقيقه وألمه لموته...وحبه لأمه وألمه لجنونها.... و صار عنده كل ما عداهما حب كاذب وألم عارض.....
إنه لينسى الدنيا كلها بما فيها ، حتى منازل حبه وغرامه وربوع هواه ، لكنه لم ينس أبدا ذلك الحي وشوارعه الضيقة الذي كان يمتد بين طريق السواني وقرجي... لأن سعادته كبرت هناك في ذلك الحي وتلك الشوارع ...وماتت في آخره حين مات شقيقه...ولم يبق له من سواعد الدنيا شيء.!
فيا رب عجل له برحمة النسيان...وأين منه النسيان؟.
إنه يذكره فيكتب فيه القصائد...ويراها فينظر إليها وهي في حالاتها المختلفة من الجنون فيبكي قلبه ولا يستطيع أن يكتب عنها حرفا واحدا فيبقى الألم يعصر صدره يحمله وحده ...
سنوات سبع مرت على وفاة أخيه بطريقة غامضة لا يعرف كنهها إلا الله والحاضرون لموته الكاتمون لشهادتهم ... وسنوات خمس مرت على جنون أمه وهو يعيش هذه السنوات متفردا منزويا متروكا حتى من شقيقاته اللآتي كن يألمن إن غاب عنهن يوما واحدا...
قد كان يألم إن غاب عنه يوما واحدا...أو غاب عنه حديثها وحكاياتها...فاللهم صبرا له. فمصائبه اكبر مما يطيق.!
يقولون إن المصيبة تبدأ كبيرة ثم تصغر ...ولكن مصيبته تنمو في نفسه كل يوم. فهو لم يعد يجد في الحياة ما يغريه بها ، ويرغبه فيها. فماذا عن الحياة؟.
وكل لذة فيها مغشاة بألم...ففيها الربيع الجميل ، وفيها بذور الصيف المحرق، وفيها الشتاء القاسي...وفيها الخريف المعتدل... فيها الحب ، فيها الوصال مشوبا بمخافة الهجر... فيها الصحة والشباب والقوة..فيها المرض والكهولة والهرم..فيها الغنى وفيها الفقر...فيها العزة وفيها الذل.....لكنه ما عرف ذلك ولا يحسب أنه سيعرفه أبدا.!
لقد كره الحياة . وزاده كراهة لها أولئك الناس...فلم يفهمه أحدا ، ولم يفهم منهم أحدا.!
إن تألم وأعرض عنهم مشتغلا بجراحه وآلامه ، قالوا متكبر. يكره الناس و لايحبهم.
وإن غضب للحق ونازع فيه قالوا شرس ((دنياوي ، جهنمي). أناني لا يحب إلا نفسه.
و إن وصف الحب الذي يشعر به كما يشعرون قالوا فاسق منافق.
وإن قال كلمة من الدين قالوا كاذب زنديق.
وإن تكلم بمنطق العقل قالوا فيلسوف...متكبر مترفع كافر.
وإن تكلم ناصحا قالوا جبار ومهدّد.
فما العمل؟ .إلى الله المشتكى ...فما له في دنياه هذه بعد شقيقه صديق، ولا صدر حنون بعد أمه سوى قلم وورق يؤويه يصب فيه مشاعره وصور الآخرين....فهم الذين يقبلونه على علاته ، فالورق الأبيض يستفزه والقلم المرمي جانبا يشعل بداخله لهيبا مريعا فهم الوحيدون الذين يقبلونه كما هو ويقبلون منه كل شيء . أما الناس فلا يقبلون إلا محاسنه. وهم الذين يحبونه هو، أما الناس فيحبون أنفسهم فيه .أولئك هم الأحبة الأوفياء الذين لم يهجروه ولم يخونوه، وتلك هي دنياه ... دنيا إحتواها التراب والجنون والورق..
لم يبق من آثار هذه الدنيا الحافلة إلا قبر منعزل على تبة بمقبرة على شاطيء البحر يحاذيه فيها إبن المقبور...وجدا من لا يعي ما يقول وما يسمع وما يفعل. وهذا كل شيء.
إنه ليستطيع ذكر تلك القرية ويحن إليها وإلى ساكنيها وشوارعها التي تحرك في نفسه عالما كاملا لكنها لا تبالي ذكرياته ولا تحفل لها. مثلها مثل تلك المقبرة التي يحتوي ترابها على اللص الفاتك كما يحتوي على المحب الثاكل. وتأوي قبورها المجرم الهارب كما تأوي الأديب المتغزل.
و مثلها الحي الذي صارت تحوي بيوته التي كانت زوايا للذكر والعبادة مقارا للفساد والفجور وكما كانت تحوي بين جدرانها السوي المستقيم ، المثال في الأخلاق والمسلك فصار يصول فيها الفساق والمفسدون....فما أضيع ذكريات المحبين عند الطبيعة وما أضيعها على الناس.
لقد إنصرفوا عنه جميعا معتقدين أنهم تركوه يتجرع غصص الآلام وحيدا ، ولم يبق له من سيشمله بعطفه ويشاركه حمل آلامه... زوجته .. أولاده.. بناته...والبون بينه وبينهم صار عميقا شاسعا لا إمكانية لسده..أو رأبه.
أم ستسعده أنت أيها المجهول الذي لا يعرفه أبدا... أ أنت يا من يجوز مع الشمس بمقبرة............ يزور حبيبا له طواه الرمس...هل تمنّ على غريب مغرّب متألم فتحيي عنه هذه البقعة وتعطف على ذكريات له فيها هي أعز عليه من الحياة لأنها كانت جمالها..؟؟!!!
هل ستترفق في سيرك وتتئد وتعلم أن في هذا التراب الذي تطؤه أطلال قلب كان من قبل عامرا سليما.
ترفق فإنك لو ملكت حاسة تدرك بها الذكريات لرأيت في هذه المقبرة وما بين قبورها بقايا قلب محطوم ...وبقايا روح بائسة دامية حزينة شاكية ، ولسمعت نشيجها.
فما تصدع ذلك القلب من هجر حبيب . ولا هدته أحداث حب وغرام ، ولكن عصفت به عاصفة من خيانة زوجة وأطفال وجحود ممن ضحى لأجلهم السنين الطوال رأى فيها الشقاء والتعب ولم ير فيها يوم سعادة . فكلها جد وكفاح وكد فحاولوا عندما كبروا هدّ أركانه فقهروه إحباطا ويأسا وألما..... فانتقل إلى الرفيق الأعلى عله يجد عنده حياة أهنأ وأسعد ، فأسكب على بقاياه قطرة من دمع يحيا بها ساعة...أو كلمة تسقي نفسه الحزينة ، ثم توجه حيث شئت ولا تنسى أن تسأل الله لساكنه الرحمة والغفران ... فما بقي له بعد حبيب ولا بعد دنيا. فقد ترك تحت أقدام ذلك المجهول قلبه وحبه راجيا إياه أن يترفق بهما. فرحمة لهذا الكهل...وغفرانا لذلك الشقيق ورحمة.
الرد مع إقتباس