وفوق كل ذلك،ليس من الحكمة أن يزهد الإنسان ـ بالغاً ما بلغ من الأصالة والثقة بنفسه ـ في مراجعة عمل فرغ منه إذا تهيأت له فرصة مراجعته بعد الفراغ منه بفترة ولو كانت قصيرة، فكيف إذا طالت سنوات، الا أن يكون قد وقف نمو وعيه أو وقف نمو معرفته؟.
هذه هي جملة أسباب توقفي ت حين عزمت إعادة طبع الكتاب ـ أمام مقدمتي وهوامشي، وترددي بين الابقاء عليها بجملتها والتخفيف منها، وأطلت التفكير في ذلك مستشيراً مستخيراً، لأن الأمر لا يخصني وأن كنت وحدي صاحب تبعته فلم يكن بد من الاستشارة والاستخارة. ولقد أشار كثير من فضلاء الاصدقاء الذين أتمثل فيهم صفوة جمهرة القراء أن لا أحذف شيئاً منها، بل نصحني كثير باضافة أمثالها إليها . وحجتهم في ذلك ـ حتى كما كنت أرى قبل الطبعة الأولى ـ أن البروتوكولات لا تظهر خوافيها لجمهرة القراء عندنا الا في ضوء هذه المقدمة والهوامش.
وهذا النحو الذي آثرته، بعد أن أطمأنت الى معظم ما كتبته منها أول الأمر خلال تلك الفترة الحرجة بين اليأس والرجاء، تحت غواشي خطر مدبر لا أمان لرجعه منه غادرة فمقدمتي وهوامشي في هذه الطبعة تكاد تكون كأصلها في الطبعة الأولى مع زيادة صفحات وفقر كثيرة في المقدمة (أشرت إليها حيث زدتها): بعضها جديد، وبعضها منقول إليها من هوامش الطبعة الأولى، لأنني رأيتها أليق بمواضعها الجديدة.
ولهذا السبب نقلت إلى المقدمة فقرة كانت في طليعة القسم المترجم تالية لمقدمتي في الطبعة الأولى وكان عنوان الفقرة "بروتوكولات حكماء صهيون: الإنجيل البلشفي" وقد وصلت ذلك كله بعضه ببعض بما يشبه رفو النسيج ليطرد سياق الكلام. وكانت مقدمتي اثنتي عشرة فصلة فجعلت فصلتين متتابعتين فصلة واحدة، واخريين كذلك، بغير زيادة حرف بين أو بين الاخريين وزدت المقدمة بضع فصل.
وتزيد هذه الطبعة على سابقتها الاهداء، ثم مقالة الأستاذ العبقري الكبير عباس محمود العقاد الذي تطوع بكتابتها مشكوراً عقب صدور الطبعة الأولى بأيام، وليست هي بالمقالة الوحيدة التي استقبلت تلك الطبعة، ولا بأكثرها ثناء عليها بين عشرات المقالات التي تناولتها بالدرس والنقد، ولكننا آثرناها على غيرها لأسباب تعني قراء الكتاب وأمثاله كما تعنينا. ومنها هنا ما عرف به العلامة الكبير من إطلاع واسع على التراث اليهودي والحركات السياسية والاجتماعية والفكرية سواء منها المعاصرة أو السابقة، والسرية أو العلنية. وما يحيط بها من مذاهب ودعوات صحيحة أو زائفة. كما عرف بايثاره ما يراه حقاً ثم المجاهرة به. لا يحابي فيه أحداً، ولا يخشى لومة لائم. ولا يميل به عن طريقه رغب ولا رهب. ولا ولاء ولا عداء، ومقالته ـ إلى ما قدمناه ـ أقرب ما قرأنا إلى القصد في التقدير وفق ما يتضح منها، كما أنها تلقي ضوءاً على بعض ما دار من معارك كثيرة عنيفة حول نسب البروتوكولات إلى أبيها أو آبائها، وان كان موقفنا أدنى من موقفه إلى التسليم بها ينسبها اليهودي لأسباب بسطنا معظمها هنا، ولقد لقيت من الرجحان في ميزاننا أكثر مما وجدت في ميزانه، ورأيه الأعلى ونحن برأينا أوثق.
ولقد كان غير هذه المقالة أولى هنا لو كنا من يغريهم ضجيج الشهرة وتستريح أعصابهم على أصوات طبولها وأبواقها المنكرة. أو لو كنا أكرم من ذلك درجة أو درجتين نؤثر الثناء أو التأييد ـ ولو صدقاً ـ على البحث القاصد في سبيل الحقيقة أو الحق الذي ندين به في أصفى لحظات الترخص باللذات الحلال في مواصلة الاحباء، كما تدين به في احرج لحظات العزم دفعاً للمكاره الموبقة في مصاولة الاعداء، وكذلك نحب أن نأخذ به انفسنا كما نأخذ به غيرنا في السراء والضراء، فانما يرفع الإنسان أو يخفضه عمله، لا مدح الناس أو ذمهم بالحق أو بالباطل أيا كانوا من رجحان العقل والأدب، وان كانت أرفع النفوس البشرية لا تعلو عن الأنس برضا الفضلاء، والوحشة حين يلقونها بالجفاء، لما فطرت عليه من قوة العطف، وحب الألفة والكرامة، أو لبعض ما تشتمل عليه من الضعف أو النقص الذي لا يبرا منه أحد من البشر بالغاً ما بلغ من العظمة والجبروت والاستقلال.
ومن لا يأنس برضاء الفضلاء، ويستوحش لجفوتهم، فهو إما إله أو حيوان. لأنه لا يكون الا أرفع من الانسان أو أدنى منه، وأما من يأنس برضا الغوغاء ويستوحش لجفوتهم فهو من طينتهم اللازبة في الكيان والوجدان، ولو توقر في القلنسوة والطيلسان، ونطق بألف لسان في حلقات العميان، أو تخايل بالتاج والصولجان وكان صاحب الزمان في مواكب العبدان.
3ـ خطر في خطر:
وأحب ـ للقارئ الصديق ـ أن يعلم أنه ليس بي من تحذير الأمم خطر اليهود عليها الا نظرتهم إلى كل من ليس يهودياً كأنه "شيء" جامد أو دون ذلك، ومن هنا وسمنا نظرتهم أو وصمناها عن حق بأنها "شيئية" كما بينا فيما بعد، وهي نظرة أو فلسفة تنافي الاخلاق في الصميم، فهي التي تسوغ لهم أن العالم ملك لهم بكل من فيه وما فيه، وأن يروا كل من ليس منهم عدواً لهم. فيعملوا على سحقه، ومن هنا كانت هذه الفلسفة الشيئية جديرة بالمكافحة، ولكن كما تكافح مثلها سائر الفلسفات والتعاليم الهدامة التي تنافي كل خلق انساني كريم، وهذا أخطر ما يؤرقني في هذه الخصومة ويحفزني إلى انكارها ومجاهدتها مكرهاً كمريد، أو مضطراً كمختار.
وليس من همي هنا أن نجاري إليهود فننظر اليهم كنظرتهم الشيئية الينا، ولا أن نلقي ظلمهم أيانا باضطهادهم أفراداً وجماعات حيث لا يرفعون رأساً ولا يشهرون سيفاً وان حق القصاص كلما فعلوا، بل أكبر همي هو الوعي الشامل لنياتهم وعزائمهم العلنية ضد أمن الانسانية وشرفها، ثم كفهم عن المظالم التي تسوغها لهم تعاليمهم الهمجية بل الشيطانية الخبيثة، إذ يستحلون العدوان على سائر الامم وادعاء ملكيتها كأنها جمادات، ويوجبون بل يستوجبون على أنفسهم عداءها والعدوان عليها، لان شريعتهم لا تكتفي بتسويغ جرائمهم بل تشجعهم على التفنن والافراط فيها، ثم تكفل لهم المثوبة عليها من معبودهم "يهوه" رب الجنود الذي يختصونه بالعبادة، ويزعمون أنه اختصهم لنفسه دون سائر البشر، ووفق هذه المعاهدة الشيطانية بينهم وبينه يتسلطون على كل العباد والبلاد.
وممن فطنوا إلى خبث هذه التعاليم في القرن الثالث المعلم الفارسي "ماني" الذي وازن بين المسيحية واليهودية، فاستخلص المسيحية لسماحتها، وانكر اليهودية واعتبر معبودها "يهوه" شيطاناً كما اعتبر تعاليمها من وساوسة الشيطانية، وهذه التعاليم اليهودية هي التي أشربت قلوبهم المرارة الزاعقة حتى طفحت على خلائقهم مع غيرهم وفيهما بينهم شكاسة ولدداً وقسوة، كما نضحت على عقلهم رعونة وسفهاً وخباثة، وهي التي أملت عليهم جرائمهم النكراء، وما تزال تملي لهم مزيداً منها في جميع الأعصار والأمصار.
ومهما يكن من هذا الخطر الشيطاني المهلك فأكبر منه عندي أن تدفعنا الرغبة في خير الانسانية والغيرة على حقوقها إلى الشر والاجرام فنطلق كاليهود ما في نفوسنا من وحوش الطراد الضارية خلف الفرائس أياً كانت الاعذار، فإن هذه الوحوش في نفوسنا اخطر علينا من سائر الوحوش مهما تبلغ من الضراوة والخباثة، وهي إذا استمرأت لحوم الأعداء حيناً فمصيرها أن تستمرئ لحوم أولى الأولياء بعد قليل، وهذا هو الشر الأكبر الذي لا يبلغه شر، وأوجب ما يكون الحذر من وحوشنا حين نصاول الاعداء، فإن الغلبة بالوسائل غير الاخلاقية ولو مع اعداء الأخلاق هو الخذلان الفاضح والخسران المبين.
وينبغي لنا باخلاص ان نعلم أن اخف نية شريرة تمر في سرائرنا ولو لمحة خاطفة، ودون أن تعقب مباشرة خطيئة لا بد أن يطبع ظلها على نفوسنا ظلمة تحجب عنا من وجه الله بمقدارها ولا يمكن أن تزول ما دامت الحياة، وكذلك أخف نية خيرة تبرق في ضمائرنا ولو لم تعقب مباشرة صالحة، فتنطبع لألاؤها في أعماقنا نوراً يكشف لنا من وجه الله بمقداره، ويبقى فينا ما بقيت الحياة، وكما تكن أصغر كلمة تحوك في نفوسنا ولو لم تمر بشفاهنا أو لم يسمعها غيرنا تثقل خطانا بها أو تخف في العروج إلى الله، ولا يمكن أن تنفصل عنا مدى الحياة. وقد علمنا الله أنه "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه"، ونعلم كذلك حقاً أن فم الإنسان لا ينجس بما يدخله بل بما يخرج منه، وأن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده بل بكلمات الله التي ألهمنا اياها بتلقينه، وإن كنا لا نعيها الا على ألسنة أوليائه، ولهذا نسأله جميعاً كلماً طيباً وعملاً صالحاً حتى مع الأعداء. وأن نقف بخطنا ونضالنا عند اعمالهم السيئة دون أن نجوز بذلك إلى شخوصهم بما لهم من كرامة انسانية لا فضل لنا ولا لهم فيها، ولا مهرب لنا ولا لهم عنها، وان كانوا شر الاعداء، كما نرجوا الله ان لا تعمل كلماتنا الا طاقتها والا كنا خاسرين
ان السكوت على الشر لا يليق بكريم ما وجد وجهاً شريفاً لدفعه. ولا ينبغي لحر أن يعتزل الحرب وقومه يطحنون، فمن أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ، وأن الغضب للحقوق ودفع العادين عليها ليس فيه ضير على شرف المجاهد إذا برئ من الحقد والحسد، فأما الضغينة على فرد أو فريق من البشر ـ مهما تفدح آثامه ـ فهي مفسدة للأرواح مهلكة للأخلاق والضمائر، وكل خطر خارجنا أهون من الخطر فينا وكل بلاء يهون ما سلمت للانسان فضائل نفسه، وكل مغنم يهون إذا كان ضياعها هو الجزاء، إذ ليس يفيد الإنسان أن يكسب العالم ويخسر نفسه كما قال المعلم الأكبر.
ونعلم أن الله يكره الخطايا ولكن رحمته لا تضيق بالخاطئين، وأن أشرف شمائلنا وأعمالنا ما كانت محاكاة لله مستمدة من فضله، وأن مكاننا منه على قدر ما في نفوسنا من شمائله ونعمته، ولهذا أرجو الله أن يحفظ علينا فضائل نفوسنا الإلهية فلا نعمل حظنا من التسامح والرفق مع ألد الأعداء ولو فار الغضب بنا حتى اعتنق السيفان في قتال، وان السماحة لأقرب لتقوى الله الذي خلق الأبرار والخطاة، وكلفنا مباركة البر ومكافحة الخطيئة بالهداية والكف ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وأن أكرم ما نستطيعه من الحق هو الاجتهاد في توخيه،والجهاد في نصرته كما نعلم، وان الله وحده هو الديان الأكبر للعباد كما أراد، وهو وحده المحيط من ورائهم بعلمه وحكمته وقدرته.
المترجم
|