عرض مشاركة مفردة
  #26  
قديم 15-12-2005, 06:51 AM
B.KARIMA B.KARIMA غير متصل
عضو فعّال
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2005
الإقامة: أرض الله واسعة
المشاركات: 327
إفتراضي

وهذه التعاليم التي تسوغ كل هذه الفظائع قديماً وحديثاً، بل تباركها وتفاخر بها جهاراً لا يمكن ان تصدر عن نظرة أخلاقية Moral، أو نظرة لا أخلاقية Amoral أي بمعزل عن الأخلاق، فتوصف بأنها شيئية فحسب كنظرنا إلى الجمادات، ولكنها تصدر عن نظرة غير اخلاقية lmmoral، أي نظرة ضد الأخلاق، فهي نظرة شر من النظرة الشيئية أو هي شيئية هدامة، وهذا هو وصفها الذي ينبغي لها، ونحن حين نكتفي بأن نسميها "شيئية" من جانب التيسير أو التخفيف في التعبير، فنحن نقصد بها ما فيها من معنى الهدم، ولهذا نقاومها كما ينبغي أن نقاوم المبادئ الهدامة التي يسلطها دعاة الفساد من اعداء الانسانية على المجتمعات البشرية افراداً وطوائف. ليرجعوا بها القهقري إلى ما قبل عصور الوحشية، ويمنحونها خلائق شراً من الوحوش الآبدة الضارية في الأدب والكرامة.
وهذه هو تقديري للخطر الاحمق، ليس غرضي منه اهدار آدميتهم ،ولا تحدي ظلمهم باضطهادهم افراداً وفرقاً، بل الفطنة الى ما يبيتون للعالم من وسائل التدمير، ومقاومة ظلمهم حيث نجم في ابانة حتى لا يغلظ سلطانهم فيتمكنوا من نشر الفساد بين العباد، وإن كنت اراهم واهمين غاية الوهم في حلمهم بالتسلط على العالم مهما يبلغوا من الحول والحيلة.
وهذا هو موقفي الصريح من الخطر اليهودي، ولم اقصد فيما اكتب محذراً منه ان اغري دولة أو شعباً باضطهادهم كما وهم محرر يهودي في صحيفة Actualitee التي كانت تظهر في مصر منذ سنوات. حين كتبت منبهاً إلى هذا الخطر فزعم أني أغري باضطهادهم هنا أو هناك، وأدعى ـ كما قال ـ انني اتمحل لهم الذنوب كما يتمحلها للكلب اصحابه، حين يريدون اغراقه على ما ورد في أحد الامثال التي يحسن حفظها ولا يحسن موردها الصحفي الأريب.
وموقفي كما يراه المنصف انبل مما وهم الصحفي اليهودي من جانب وأعمق من جانب آخر، هو انبل لأني اعترف بالآدمية لكل يهودي وأن كنت أعتقد أنه وفق عقيدته يهدر آدميتنا، كما أني اعترف له بكل حرمات الآدميين وحقوقهم، وان كان هو لا يرقب فينا حرمة ولا يصون لنا حرية، ولست احاسبهم على ما اشربت قلوبهم من بغضائنا واحتقارنا إذ لا يحاسب الإنسان على نياته الا الله، وان كنت احذر بمليء فمي النيات الشريرة التي يجارون بها بطراً وفخاراً، وغاية وسعي بعد ذلك أن اسلم بالواجب الذي لا مفر منه ولا حسباهم على اعمالهم بالعدل دون ان نخشى لومة لائم، لأنهم ليسوا فوق المسؤولية ولا دونها، ومن موجبات الدقة في حسابهم ما يجاهرون به من اغراضهم الشريرة لا فساد الامم وان فاتهم سلطانها.
وموقفي اعمق من جانب آخر، فأنا اضع نصب عيني هذه النيات التي تؤحي بها إليهم تعاليمهم الهمجية، وهي ظاهرة في كل ما لهم من مساع واعمال، فأنا لا احذر خطرهم لأنهم حاربوا قومي أو يحاربوهم فحسب. ولا لأنهم اقتطعوا إسرائيل من فلسطين فصاروا العدو القريب الدار أو القائم في صميم بلادنا فحسب، وان كان كل اولئك من دواعي الالتفات إلى هذا الخطر، بل أنا احذر خطرهم على الانسانية ايضاً، ولو جلوا عن بلادنا إلى أي بقعة في العالم، لأنهم حيث كانوا أعداء الانسانية الذين يتربصون بها الدوائر، ولم تعد اقطار الأرض اليهم دوائر مقفلة: كل دائرة قائمة بنفسها معزولة عن ابعدها، بل هي دوائر متداخلة كل منها واغلة في سائر الدوائر، بل انها ـ مع توادها بل تعاديها، وبرضاها وعلى الكره منها ـ كأنها الجسد الحي إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر اعضائه بالسهر والحمى كما تدل على ذلك أوضح الدلالة واغناها احداث السنوات الأخيرة.
فحيثما قام لليهود سلطان وهم على هذه البغضاء للأمم فهم خطر على كل من فيها مهما يبعد عنهم موطنهم أو تنقطع بهم صلته في ظاهر الأمر.
ولهذا تبقى مسؤوليات المفكرين والساسة المسؤولين عن الأمم قائمة امام هذا الخطر بعد أن يفرغ الجند من حسابهم معه بالنصر أو المتاركة أو المهادنة أو الصلح ولا ينبغي لصاحب قلم ان يغمده ويغفو عنه ولو ألقى الجندي سلاحه ونام ملء جفنيه "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام، واخراج اهله منه أكبر عند الله، والفتنة أكبر من القتل، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم ان استطاعوا".
وهذا صوت الحياة، فإن لم يكن منهم قتال وقتل تكن فتنة شر واكبر من القتل.
واذا اغمد السيف حين لا قتال فلا يغمد القلم ما قامت الفتنة، وهي قائمة على الدوام.
ولا مفر من قتال كل معتد أثيم حيث ارتفعت يده بالسيف ولسنا نرى "الكف" فنقول لليهود امثالهم ما قال أحد ابني آدم لأخيه فيما روى القرآن الكريم "لئن بسطت الي يدك لتقتلني ما انا بباسط يدي اليك لاقتلك، اني اخاف الله رب العالمين" فنحن نخشى الله كهذه الخشية، ولكنا من أجل هذه الخشية نفسها نلقي سيف الباغي بسيف مثله كرامة للحق الذي امرنا الله بحفظه وفداء في سبيله.
وليس باعثاً على جهاد الخطر اليهودي ونحوه حيث جاهر بالقتال أو الفتنة هو الشعور الديني أو القومي فحسب، بل هو الشعور بالمسؤولية الاخلاقية الانسانية، وليس سندنا هنا هو مجرد الاخلاق الاجتماعية التي نستمدها من المجتمع في بقعة في زمن محدود، بل شعورنا بالمجتمع الاوسع الي يشمل الانسانية في جميع الإعصار والأمصار، ثم ينداح هذا الشعور حتى يلتقي بجذور الوجود متضامنا مع كل ذي عقل وإرادة أو كل ذي مسؤولية فيه بقدرة من القوة والأمانة.
فهو شعور لا تنحصر تبعته أمام فرد ولا طائفة ولا امة ولا مجموع الأمم على اختلاف الأزمنة والأمكنة، بل يتناول الكون كله جملة بسماواته واراضيه، وما وراء ذلك من قوى مدبرة له ومدبرة معه ومدبرة به. ومن معان هي ألطف من أن يحيط بها الا الله، واظهر من أن لا يتأثر بها حي ولا جماد وان جهلها غاية الجهل. واذا كان المرجع القريب لهذا الشعور هو المجتمع الذي يحيط بنا في اصغر صورة ثم اكبرها فمرجعه البعيد هو الضمير الذي امتلأ بتاضنه مع الكون كله في كماله ونقصه وقوته وضعفه. وبهذا القسطاس الاخلاقي الكوني أدين نفسي وأدين غيري في الوجود، وازن كل ما فيه من أعمال وقيم ومذاهب، ومن كان يحس بتضامنه هكذا مع الكون كله لم يحس بالوحشة ولو تخلى عنه كل البشر، ولا وحشة مع انس الضمير بهذا التضامن الابدي.
وعقيدتنا التي هي عزاؤنا وقوتنا في هذه الملحمة بيننا وبين الصهيونية ومثلها ان حربها فريضة انسانية وليست فريضة قومية فحسب، وفي كل فريضة انسانية إنما نعمل على قدر ما توجب علينا قوتنا وامانتنا، لا لأن أحداً يطلبها منا، فنرضيه أو يرضينا إذا أديناها، ويؤاخذنا إذا قصرنا فيها، فإن هذا الشعور مرجعه الضمير، صوت الله في نفوسنا، والروح القدس الذي لا سلطان لاحد عليه، وهذا الشعور نوع من الحب الذي يغتبط بما يعطي لا بما يأخذ، وهذا ضرب من الفضيلة في أعلى طبقاتها لا يبلغها الا المقربون وكل ميسر لما خلق له، وليس للانسان الا ما سعى، وكل امرء بما كسب رهين.
15 ـ خطاب إلى العرب:
وكل هذا لا يحملنا على الاستخفاف والتهاون امام الخطر اليهودي الذي وضحناه في الفقرة السابقة. فنحن لا نستبعد قيام دولة إسرائيل في فلسطين كلها ـإذا لم يتنبه العرب إليها ويحطموها قريباً ـ وقد تنجح في بسط سلطانها على ما هو أوسع. ولكننا نعتقد أن قيامها منوط بتهاون العرب وببقاء سيطرة الأجانب على الشرق الأوسط وخصوصاً قناة السويس: مفتاح الخطر، ولولا هذا لقضي على إسرائيل في بضعة أيام. فاسرائيل قائمة على أن نعاونها ويبقى الأجانب في اقطارنا.
ثم ان الموازنة بين قوة العرب وقوة اليهود لا توحي باليأس، ما دام العرب قادرين على التخلص من نفوذ المستعمرين بينهم ومقاطعة اسرائيل، ونعتقد أن المعركة الجديدة الحاسمة لم تبدأ بعد. ولم تبذل بلاد الشرق الأوسط لا سيما العربية كل وسعها. وليس المهم في الصراع ـ كما قال تشرشل ـ كسب المعارك بل كسب الحرب. والدول العربية لا يمكن أن تتحطم من قوة خارجية الا بعد أن يتصدع بنيانها داخلياً. فليجدد العرب بنيانهم الداخلي، ولينقوا أوطانهم من العناصر المتطفلة عليهم، وليحفظوا أنفسهم من الأدناس. فطالما كانوا كذلك فهم بخير، ولا محل إزاء ذلك للتشاؤم. ولا يهم توحيد الأقطار العربية شكلاً تحت حكم واحد. بل حسبهم ان تكون كل دولة قوية في ذاتها، بثروتها وجهود ابنائها وقوة عقولها وأخلاقها، ولو لم تتحد مع غيرها في الحكم.
أن الجسم القوي لا تقتله الأمراض وان أوهنته، فليقو كل منا جسمه مع الحذر من التعرض للأوبئة دون ضرورة، وليحفظه سليماً. ولست انصح العرب نصحية نيتشه "عش في خطر"لأن الخطر يتخلل صفوفهم ويحيط بهم من كل جانب. فهم يعيشون فعلاً في خطر من شهوات أنفسهم ومن أعدائهم ولكني أنصح لهم أن يدركوا الخطر الذي يعيشون فيه، لا سيما جانبه الداخلي في سرعة وحزم. وليغيروا ما بأنفسهم حتى يغير الله ما بهم، فيبعدوا الخطر عن أنفسهم قبل فوات الأوان.
أيها العربي، أصلح أولاً نفسك ينصلح من حولك كل شيء، "والعصر إن الإنسان لفي خسر. الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر".
مصر ـ كوبري القبة
10 سبتمبر سنة 1951
محمد خليفة التونسي