هذا الذي يحدث 14
هذا الذي يحدث
14
لقد بدأت حياته في أسرة صغيرة و متوسطة يرعاها أب يعمل حدادا لا يملك من حطام الدنيا سوى أجره و خلقه وإستقامته.... فرباهما وأخواتهما الثلاثة على الخير والأمانة والإستقامة وحب الناس ... وأثمرت تربيته الجادة لهم فتزوجت أخواتهما في ذلك الزمن الذي كان يرى فيه مآل الأنثى لبيت الزوجية ، حيث لم ينلن أي قسط من التعليم في تلك الحقبة من أربعينيات القرن العشرين التي كان إرسال الأنثى فيها لصفوف المدارس شبه محرم... إلا أن أختهما الصغرى تلقت قسطا من التعليم لأنها كانت من الجيل التالي حيث إستقلت الكثير من الدول من الإستعمار وصار التشجيع لولوج ميدان التعليم والتعلم مطلبا لخلق البنى الأساسية للبلاد فإستطاعت أن تنال قسطا لا بأس به ... أما هو و شقيقه فقد نالا ما كان متاحا في ذلك الوقت حيث تخرج من معهد تجاري وتخرج شقيقه رحمه الله من معهد صناعي ...
شق كل منهما طريقه في الحياة... ودخلا معتركها فتوظف وهو في العشرين من العمر .... وسكن مع شقيقته التي كانت متزوجة في بيت بإحدى مناطق المدينة لعدم قدرته على توفير سكن مستقل خاصة وأن والديه لا زالا في ديار الغربة...ومطلوب منه أن يوفر ما يستطيع حتى يستقبلهم ويهيء لهم العيش الهنيء دون شدة وعناء...
كانت وظيفته تدر عليه بعض المكافآت البسيطة فكان يعتمد عليها في مواجهة مصروفاته الشخصية مثل الملبس والمواصلات ... أما المرتب فكان يبقى كما هو ... كان راضيا عن حياته وسعيد رغم المستقبل الذي يلوح أمامه صعبا ، شديد الصعوبة. فلا أمل في زواج ولا أمل في مسكن لائق مستقل .. ولا في وجاهة إجتماعية تساعد على تحقيق التقدم الوظيفي.. خاصة وأن الوظيفة لا يتقدم فيها إلا من يملك الإمكانيات الإجتماعية والتوصيات الشخصية... حيث المعيار هو التوصية وليس الإمكانيات والإنتاج والإبداع ...وأمثاله ممن لا سند لهم في الحياة ولا ظهير ولا إمكانيات يتعثرون فيها إلى ما شاء صاحب القرار....
ومع ذلك فلقد مضت الحياة عنده بخيرها وشرها وحفظ عهده لأبيه أن يكون في عمله مثالا للصدق والإخلاص والأمانة والضمير الحي ، كما عاش هو حياته ، فعاش راضيا عن نفسه ممتنا منها.
لقد كان فعلا صادقا مخلصا أمينا في عمله رغم الإغراءات التي كانت متاحة لأمثاله ...فلم يلق بالا لبعض زملاء السوء الذين تندروا عليه بأن أمثاله لن يطفوا أبدا فوق السطح وسيظلون إلى آخر العمر في قاع المجتمع " والفقري فقري" ...وكان رده عليهم دائما وهو في منتهى السرور...بوزيد عريان بوزيد لابس....
لم يكن يتكسب من عمله مثلما يتكسبون ... كان يعيش حياة متقشفة...في حين يعيش أمثاله حياة مبسوطة لا تتناسب مع أوضاعهم . ومع ذلك كان راضيا بحياته ونصيبه من الدنيا... وكان يرضيه كثيرا أن رؤساءه في العمل كانوا إذا واجهوا أمرا يتطلب تنفيذه شخصا أمينا ... كانوا لا يختارون غيره من بين أكثر من الألف موظف.... والمائة وخمسون مسئولا على مختلف مستوياتهم ومناصبهم ... ثقة فيه وفي وصدقه وأمانته ، لدرجة أن الكثيرين من زملائه كانوا يطلقون عليه رجل المهمات الضميرية ... تهكما وسخرية ... حتى أن أحدهم يناديه ممازحا بالعبد العبيط...و دس آخر قصاصة ورق بمكتبه كتب عليها بيتا من الشعر يقول :
مات الضمير وشيعوا جثمانه ما عاد في الدنيا ضمير ينفع .. هـ هـ هـ
ومضت السنين هادئة وقد تقدم في عمله وتحسنت أحواله المادية حيث تحصل على سكن مستقل بقرض ، وكون أسرة من أولاد وبنات .. وقد تقدمت به سنوات العمر ولم يوفر لأسرته سوى أنه علمهم بما يمكن من التعلم المتاح والمتوفر .. ووفر لهم حياة كريمة مستورة رغم ما فيها من شضف مقارنة بمن هم في مثل عمله ومجاله... فأولاده لا يعرفون طعم الفواكه إلا حينما تنخفض أسعارها وتصبح في متناول الناس العاديين " العياشة " كما تقول العامية...ولا يعرفون للمشروبات أو العصائر أو الملابس الحديثة المتحدثة أو حياة الترف... كل ذلك بسبب محدودية دخله وضعف إمكانياته .. وهو يتمثل لقول الشاعر:
تصفوا العيون إذا قلت مواردها والماء عند إزدياد النهر يعتكر
عاش حياته بحلوها ومرها حتى جاء اليوم الذي تحول فيه إلى مجرم متهم .. وصار الأبرياء هم الذين يدفعون الثمن. ولقد صدق من قال : ـ
ألام على ما أبدي علك من الأسى وإني لأخفي منه أضعاف ما أبدي.
|