الموضوع: هذا الذي يحدث
عرض مشاركة مفردة
  #25  
قديم 23-12-2005, 09:07 AM
عبدالحميد المبروك عبدالحميد المبروك غير متصل
عضو جديد
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2005
المشاركات: 172
إفتراضي هذا الذي يحدث 24

هذا الذي يحدث
24
الحياة محطات ووقفات ... وأحداث ومواقف... منها ما هو طبيعي ، ومنها ما هو غريب ، ومنها ما هو فريد ومنها ما تصطك له الأسنان... ومنها ما تسودّ منه القلوب.... ومنها ما تكفهر له الوجوه... وتقف منه القلوب ....فكما تزخر حياة كل إنسان بهذه المحطات والوقفات والأحداث والمواقف ... تزخر حياته بكثير منها... في أزمنة وأمكنة مختلفة فيها كثير من الحوادث والعلاقات.....

ما يراه الآن ماثلا أمام عينيه هو المدينة ، بل القرية التي ينتمي إليها عبر أجداده ، والتي تتربع في أعالي جبال نفوسة حيث يندرج والده من إحدى قبائلها ، حيث ولد وترعرع فيها وبين هضابها ووديانها وكرومها وزعترها وشيحها و بطومها ... ثم هجرها مع أمه وخاله إلى أماكن أخرى عدة.... فاستقر به المقام في قرية أخرى ... ومدينة أخرى ... وبادية أخرى غير القرية التي كان يعيش فيها... فكبر وترعرع فيها... وتزوج وأنجب أطفالا في تلك المدينة ...والتي لم يعش فيها إبنه هذا طفولته ولا شبابه ولا حتى كهولته...

فقد كانت طفولته ومرتع شبابه في مدينة ساحلية تزخر بالشوارع والطرقات والزقاق ، تحيط بها الحقول كالهلال من الشمال والغرب والجنوب... ويحيط بها البحر من الشرق ويعبرها من الغرب نهر كبير ... و كانت أشجار الزيتون واللوز والتين والعنب تتشابك في حقولها التي تمتد عشرات الكيلومترات.....

ما يذكره من أيام طفولته في تلك المدينة محطات كثيرة ... طيور " المقر " التي كانت تتكاثر في فصل الشتاء ، وتحديدا في موسم الزيتون ، فتحلّق في السماء وتتشكل في أوضاع خلابة قبيل غروب الشمس... و أرتال العربات المجرورة بالبغال محملة بأكياس الزيتون إلى المعاصر القريبة من الحي الذي تسكن به أسرته.....ورائحة الزيت وهي تنتشر متطايرة يحملها النسيم البارد فتملأ أنوف الصغار .... والمطر المنهمر يبلل رؤوسهم الصغيرة خلال الأيام الأولى من السنة الدراسية ، والوادي الذي يفيض فيغمر أحياء المدينة بعد عدة أيام من الأمطار الغزيرة المتواصلة ... والوجوه المكفهرة الحزينة بعد أخبار العدوان الثلاثي على مصر سنة 1958 ... ومسيرات الغضب والإستنكار .... والوجوه الفرحة المستبشرة والأجساد النشطة ومظاهر الفرح عند إستقلال الجزائر سنة 1962.... و أمسيات الشهر الفضيل ، شهر رمضان ، تلك الأمسيات المتلألئة في زقاق المدينة القديمة والتي شيدت من العهد الفاطمي ، حيث ينشط الناس ويتزاحمون في المقاهي والدكاكين يصلّون ويسهرون ويتسامرون و يتعبدون حتى إرتفاع نقرات طبول المسحرين إيذانا بقرب وقت الإمساك.... حيث كان المسحراتي يدق على طبله الصغير مناديا للسحور وهو يركب دابته ، فترى بعض الناس يندهونه لتقديم صدقة أو طعام...

ويذكر من تلك الحقبة المساجد العتيقة التي شيدها القادة المسلمين الفاتحين على مر السنين وخصوصا ذلك الجامع الذي يتوافد إليه الأهالي جماعات وأفرادا ، يصحبهم فيه أطفال ونساء وكل على جهة.... هذا قرب الحائط يقرأ القرآن ، وهذا قرب الضريح يدعوا ، وهذا يصلي ، و آخر في مكان والده يتلو القرآن ثم يدعو...

لم ينس ذكريات الطفولة أيام عيد الفطر ، حيث تقضى آخر أيام شهر رمضان المبارك في البحث في المتاجر والأسواق الشعبية عن الثياب الجديدة ... وإنتظار آخر يوم لسماع دويّ المدفع معلنا نهاية شهر الصوم ، فتزدحم البيوت مهنئة بالعيد السعيد ، حيث كان الناس يزحفون إلى مقبرة المدينة للترحم على موتاهم.....

من يزور المدينة لا بد له من الجلوس بمقهى السوق العتيق الذي يربض في طرف المدينـة القديمة . كان هذا المكان موئل التلاميذ والشباب ، و محج المثقفين والمفكرين . فعند إقتراب موعد إمتحانات آخر السنة كان التلاميذ يذهبون إليه ويقضون اليوم طوله يدورون حوله يقلبون صفحات الكتب والكراريس ويحاول بعض منهم أن يستفز أحدا من الأساتذة أو المعلمين الذين كانوا يطالعون الصحف أو يقرءون المجلات أو يتجادلون في مصير الأمة العربية والعالم فيستنفر أحدهم نظراتهم المكسورة ووجوههم البائسة فينده عليه ويرى ما يقرأ فينفتح معه حوارا جماعيا لما لم يفهموه من دروس، أو ما إختلط عليهم من مفاهيم. فيطرحون ما إستشكل عليهم من مسائل ونظريات ، فكانوا يأخذونهم بكل شفقة ورحمة إلى ظل الأشجار الباسقة في الحديقة المجاورة فيحيطون بذلك الأستاذ أو المعلم واقفين وجالسين وهو في وسطهم يجلس على كرسي الحديقة يشرح لهم ما إستشكل عليهم أو ما غمض من قواعد ومسائل... تلك صورة من الصور ولقطة من لقطات أيام العمر الذي يفنى كل يوم بدون فائدة......................
الرد مع إقتباس