عرض مشاركة مفردة
  #8  
قديم 19-01-2006, 06:25 AM
أحمد ياسين أحمد ياسين غير متصل
من كبار الكتّاب
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2005
الإقامة: فرنسا
المشاركات: 6,264
إفتراضي

إن الإخوان المسلمين كان يمكن لهم الفوز بنتائج مماثلة أو قريبا منها منذ نهاية الأربعينيات لو توفر قدر معقول من نزاهة العملية الانتخابية. ولقد برهن النظام المصري من خلال إمعانه في البلطجة على إفلاسه رغم أن الإخوان لم يمثلوا تهديدا حقيقيا له من خلال تحجيمهم لأنفسهم، فكيف لو نزلوا بكل ثقلهم فترشحوا في كل الدوائر لكنا إذن أمام حالة جزائرية، أو حملة اعتقالات شاملة لسد الطريق أمام مشاركة الإخوان أصلا.

وفي كلا الحالتين لو حصل ذلك لكان النظام قد عجّل بأجله ووفر ظروف انقلاب. ولذلك يكون الإخوان بضبطهم لأنفسهم قد مدوا في عمر النظام، ولكنه مجرد تمديد, فقد تهاوت شرعيته والمسألة مسالة وقت.

إن انتزاع الشعب المصري حق التظاهر في الشارع وارتفاع شعار كفاية في وجه أقوى حاكم عربي وتكرر ذلك ثم عودة المتظاهرين ليناموا في بيوتهم آمنين هو أحد أبرز ظواهر التطور في عالم العروبة وأعظم انجازات سنة 2005 وأهم أمارات ساعة النظام المصري وأشباهه.

وما تبقى فمسألة وقت فقط. غير أن الجدير بالتنبيه هنا أن ذلك ما كان ليحدث لولا سنة التدافع (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) -البقرة 251-، وتمثلت في الضغوط الخارجية التي خضع لها النظام المصري وحدّت من استخدامه المنفلت لما بين يديه من أدوات قمع، دون أن تكفّها نهائيا، فانبثق من بين القرنين 88 نائبا للإخوان.

والمثال الثاني من تونس فالشبه كبير رغم الحجم المختلف، بين سياق التطور في مصر وفي هذا البلد الصغير ربما يكون هنا التشابه الأكبر بين قطرين عربيين، إن من جهة تزامن وتشابه التجارب الإصلاحية منذ النصف الأول من القرن العشرين أو من جهة التأثر

بالتجربة الفرنسية أو من جهة الطبيعة المدنية لكل من المجتمعين.

وكما كانت الانتخابات الأخيرة فاضحة لشرعية السلطة المصرية رغم "فوزها" المشكوك به بأكثر من ثلثي المقاعد إلا أنها لم تزد شرعيتها إلا تهلهلا وأسرعت بها إلى النهاية بسبب فشلها -بشهادة الكاميرا- في ضبط العنف بل ارتمت في أحضانه ملجأ أخيرا للشرعية.


إن شبيها بذلك حصل لسلطة 7 نوفمبر/ تشرين الثاني التي أفلست وحنثت بوعدها -استمدت منها شرعية الانقلاب- بقيادة عملية التحول الديمقراطي وإعادة الاعتبار للهوية العربية الإسلامية للبلاد.

وهذان الوعدان سرعان ما تخلت عنهما عقب أول امتحان تعرضت له في انتخابات 89، فطرحت بديلا عن ذلك: مشروعا تنمويا ساعدته الظروف الإقليمية في توفير تمويل غربي سخي له، واستطاعت استقطاب قطاع واسع من النخبة إلى صفها تخويفا من الإسلاميين وانتهازا يتستر بالدفاع عن الديمقراطية والحداثة!.

ومرت عشرية حمراء على أحرار تونس كانت مدة كافية لتكشف طبيعة المشروع الكارثية وخيبة الرهان. وجاء ظفر السلطة بتنظيم مؤتمر دولي ضخم لمجتمع المعلومات حرصت عليه كل الحرص لتنتزع من خلاله شهادة دولية تدعم شرعيتها الحداثية، جاء على الضد بالكامل لما أرادت.

إذ نجحت كاميرات آلاف الصحفيين في كشف الغطاء عن حقيقة المذبحة التي تتعرض لها مفاهيم الحداثة ومنها الحريات السياسية والإعلامية، فلم تتحمل السلطة ذلك فتورطت في اقتراف صنوف من العدوان على الصحفيين وعلى الضيوف، وذلك مقابل نجاح ثمانية من رموز المعارضة السياسية والمدافعين عن حقوق الإنسان ينتمون إلى مختلف التيارات مدعومين على امتداد البلاد بقوى شعبية تحررية ومن المهاجرين، نجحوا في إظهار السلطة في العراء بمثل ما فعلت الانتخابات المصرية، بما فاقم من أزمة البلاد وقدم المعارضة لأول مرة في صف موحد يبعث على الاحترام ويلوّح بالبديل رافعا مطالب بسيطة جامعة تتمحور حول الحرية: حرية التعبير وتأسيس الأحزاب والجمعيات وإطلاق المعتقلين. وقد لاقت هذه المطالب التفافا واسعا من قبل النخبة والشباب والنقابيين، وولدت في مصهر هذا التحرك هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات تؤرخ لميلاد جديد لمعارضة جادة تبشر بتغيير حقيقي يلوح في الأفق، ولم تشوش عليهم غير أصوات استئصاليه هي بعض مخلفات التطور، تعبر عن تخوف من عودة الأصولية بما يهدد مكاسب الحداثة!.

وكأن الديكتاتورية والحداثة صديقان حميمان، يرفضان أي عمل مشترك مع النهضة –مع أن له تراثا يمتد إلى نهاية السبعينيات بين كل قوى المعارضة- وذلك على غرار الاستئصال المصري الذي لا يزال يرفع رايته زعيم حزب التجمع رغم الكارثة الانتخابية الفاضحة التي قاد إليها حزبا عريقا بل قاد إليها المعارضة غير الإسلامية التي لم تتنبه إلا بعد فوات الأوان لضرورة التباين معه والالتحاق بقوى الشارع التي أقلعت في اتجاه الإخوان.

"
الإسلام في حالة فوران وتمدد، وهو القوة الأبرز في مؤسسات المجتمع المدني في معظم الأقطار، وجماعاته السياسية الأكثر تغلغلا في كل شرائح المجتمع وبالخصوص الشباب، بما يجعل التفكير في المستقبل لا يمكن بحال أن يكون بعيدا عنه
"

ولم ينتبه الاستئصال هنا وهناك لا إلى سريان ظاهرة التطور على الجميع بمن فيهم الإسلاميون فالاستئصال نرجسي لا ينظر إلا لصورته في مرآته وليس مستعدا ليتابع الحياة في تطورها.

منهاجه: صدقت النظرية وكذب الواقع. حتى ولو كان الإسلاميون اليوم القوى الأعظم التي تتصدى للمخططات الإمبريالية ويتحالف مع القوى المضادة للعولمة المتوحشة، ولا هو انتبه لحقيقة تطور الساحة الشعبية وبالخصوص صوب الإسلام بضغط عوامل كثيرة، ولا هو انتبه إلى تطور الموقف الدولي في اتجاه التعامل مع هذا الواقع الجديد، ولا هو تفطن إلى أنه في لحظات التغيير الحاسمة كالتي أخذت تمر بها أمتنا وبلادنا لا يبقى في الساحة غير معسكرين معسكر سلطوي ومعسكر معارض.

فمن يرفض طرفا في المعارضة فقد رفض المعارضة كلها ودفع بنفسه إلى المعسكر المقابل أو خرج من اللعبة جملة. ولكم مضى من هذر حول القطب الثالث فلم لم يتحقق في غيبة الإسلاميين؟ الحقيقة المجتمعية في عالم الإسلام اليوم أن الأوضاع المحلية والدولية تقدم مزيدا من فرص التغيير وأن الإسلام يمثل قوى تجديد النخبة ويقود معارك الأمة الكبرى, من إندونيسيا إلى المغرب.

الإسلام في حالة فوران وتمدد، وهو القوة الأبرز في مؤسسات المجتمع المدني في معظم الأقطار، وجماعاته السياسية هي الأكثر تغلغلا في كل شرائح المجتمع وبالخصوص الشباب، بما يجعل التفكير في المستقبل لا يمكن بحال أن يكون بعيدا عنه حملا للوائه أو تحالفا معه، من أجل أوطان تنبثق فيها الشرعية من صناديق الاقتراع، وعبر ذلك تداول السلطة سلميا وينعم كل المواطنين بحقوق متساوية. فهل يملك الاستئصال قدرة النظر إلى ما ومن حوله؟