[b]ثانيا:ً من حيث روح الإسلام و قواعده
( أ ) لا شيء في الغناء إلا أنه من طيبات الدنيا التي تستلذها الأنفس، و تستطيبها العقول، و تستحسنها الفطر، و تشتهيها الأسماع، فهو لذة الأذن . و المنظر الجميل لذة العين، و الرائحة الذكية لذة الشم . . إلخ، فهل الطيبات - أي المستلذات - حرام في الإسلام حلال ؟
من المعروف أن الله تعالى كان قد حرم على بني إسرائيل بعض طيبات الدنيا عقوبة لهم على سوء ما صنعوا ، كما قال تعالى : ( فَبِظلُمِ مِنَ الَذِينَ هَادواُ حَرَّمُنَا عَلَيُهِمُ طَيِبَاتٍ أحِلَّتُ لَهمُ وَ بِصَدِهِمُ عَن سَبِيل اللَه كَثِيرَاَ ( 160 ) وَ أَخُذِهِم الّرِبَواُ وَ قَدُ نهواُ عَنُه وَأَكُلِهِمُ أَمُوَالَ النَاسِ بِالُبَاطِلِ ) النساء(60-61) ، فلما بعث الله محمداً ( صلي الله عليه و آل و سلم ) جعل عنوان رسالة في كتب الأولين أنه : ( يَأُمرهم بِالُمَعُروفِ وَيَنُهَهمُ عَنِ الُمنكَرَ وَ يحِلّ لَهم الُطَيِبَاتِ وَ يحَرِم عَلَيُهِم الُخَبَثَ وَيَضَع عَنُهمُ إِصُرَهمُ وَالأغُلالَ الَتِي كَانَتُ عَلَيُهِمُ ) الأعراف (157).
فلم يبق في الإسلام شيء طيب – أي تستطيبه الأنفس و العقول السليمة – إلا أحله الله ، رحمة بهذه الأمة لعموم رسالتها و خلودها . قال تعالى : ( يَسُئَلونَكَ مَاذَآ أحِلَّ لَهمُ قلُ أحِلَ لَكم الطَيِبَات )المائدة (4) .
و لم يبح الله لواحد من الناس أن يحرم على نفسه أو على غيره شيئاً من الطيبات مما رزق الله ، مهما يكن صلاح نيته أو ابتغاء وجه الله فيه ، فإن التحليل و التحريم من حق الله وحده . و ليس من شأن عباده ، قال تعالى : ( قلُ أَرَءَ يُتمُ مَّآ أَنزَلَ اللَه لَكم مِن رِزُقِ فَجَعَلُتمُ مِنُه حَرَمَا وَحَلَالَاَ قلُ ءَآلّلَه أَذُنَ لَكمُ أَمُ عَلَى الّلَه تَفُترونَ) يونس (59 ) ، و جعل سبحانه تحريم ما أحله من الطيبات كإحلال ما حرم من المنكرات ، كلا هما يجلب سخط الله و عذابه ، ويردي صاحبه في هاوية الخسران المبين ،و الضلال البعيد ، قال جل شأنه ينعي على من فعل ذلك من أهل الجاهلية : ( قَدُ خَسِرَ الَذِيُنَ قَتِلواُ أَولَادَهمُ سَفَهَا بِغَيُرِ عِلُمِ وَ حَرَمواُ مَا رَزَقُهمُ الّلَه افُتِرَآءً عَلَى الله قَدُ ضَلّواُ وَمَا كَانواُ مهُتَدِيُنَ) الأنعام ( 140 ) .
( ب ) و لو تأملنا لوجدنا حب الغناء و الطرب للصوت الحسن يكاد يكون غريزة إنسانية و فطرة بشرية، حتى إننا لنشاهد الصبي الرضيع في مهده يسكته الصوت الطيب عن بكائه ، و تنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه . و لذا تعودت الأمهات و المرضعات و المربيات الغناء للأطفال منذ زمن قديم . بل نقول : إن الطيور و البهائم تتأثر بحسن الصوت و النغمات الموزونة حتى قال الغزالي في « الإحياء » : « من لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال ، بعيد عن الروحانية - زائد في غلظ الطبع و كثافته على الجمال و الطيور و جميع البهائم ، إذ الجمل – مع بلادة طبعه – يتأثر بالحداء تأثر يستخف معه الأحمال الثقيلة و يستقصر – لقوة نشاطه في سماعه – المسافات الطويلة ، و ينبعث فيه من النشاط ما يسكره و يولهه . فترى الإبل إذا سمعت الحادي تمد أعناقها ، و تصغي إليه ناصبة آذانها و تسرع في سيرها ، حتى تتزعزع عليها أحمالها و محاملها » .
و إذ كان حب الغناء غريزة و فطرة فهل جاء الدين لمحاربة الغرائز و الفطر و التنكيل بها ؟ كلا ، إنما جاء لتهذيبها و السمو بها ، و توجيهها التوجيه القويم . قال الإمام ابن تيمية رحمه الله : إن الأنبياء قد بعثوا بتكميل الفطرة و تقريرها لا بتبديلها و تغييرها .
و مصداق ذلك أن رسول الله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) قدم المدينة و لهم يومان يلعبون فيهما ، فقال : « ما هذان اليومان » ؟ قالوا : كنا نلعب فيهما في الجاهلية . فقال عليه السلام : « إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما : يوم الأضحى و يوم الفطر » (رواه أحمد و أبو داد و النسائي . ) .
و قالت عائشة : « لقد رأيت النبي يسترني بردائه ،و أنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد ، حتى أكون أنا التي أسأمه - أي اللعب -فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو » .
و إذ كان الغناء لهواً و لعباً فليس اللهو و اللعب حراماً ، فالإنسان لا صبر له على الجد المطلق و الصرامة الدائمة .
قال النبي ( صلي الله عليه و آل و سلم ) لحنظلة – حين ظن نفسه قد نافق لمداعبته زوجه وولده ،و تغير حاله في بيته عن حاله مع رسول الله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) : « يا حنظلة ؛ ساعة و ساعة » ( رواه مسلم ) .
و قال علي بن أبي طالب : روحوا القلوب ساعة بعد ساعة ،فإن القلوب إذا أكرهت عميت .
و قال كرم الله وجهه : إن القلوب تمل كما تمل الأبدان ، فابتغوا لها طرائف الحكمة .
و قال أبو الدرداء : إني لأستجم نفسي بالشي ء من اللهو ليكون أقوى لها على الحق .
و قد أجاب الإمام الغزالي عمن قال :إن الغناء لهو ولعب :هو كذلك ، و لكن الدنيا كلها لهو و لعب . . و جميع المداعبة مع النساء لهو ، إلا الحراثة التي هي سبب وجود الولد ،كذلك المزح الذي لا فحش فيه حلال ، نقل ذلك عن رسول الله ( صلى الله عليه و آل و سلم ) و عن الصحابة .
و أي لهو يزيد على لهو الحبشة و الزنوج في لعبهم ، فقد ثبت بالنص إباحته . على أني أقول : اللهو مروح القلب ، و مخفف عنه أعباء الفكر ، و القلوب إذا أكرهت عميت ، و ترويحها إعانة لها على الجد ، فالمواظب على التفقه مثلاً ينبغي أن يتعطل يوم الجمعة ؛ لأن عطلة يوم تساعد على النشاط في سائر الأيام ، و المواظب على نوافل الصلوات في سائر الأوقات ينبغي أن يتعطل في بعض الأوقات ،فالعطلة معونة على العمل ، و اللهو معين على الجد ،ولا يصبر على الجد المحض ، و الحق المر ،إلا نفوس الأنبياء عليهم السلام .
فاللهو دواء القلب من داء الإعياء و الملال ،فينبغي أن يكون مباحاً ، و لكن لا ينبغي أن يستكثر منه ،كما لا يستكثر من الدواء ، فإذن اللهو على هذه النية يصير قربة،هذا في حق من لا يحرك السماع من قلبه صفة محمودة يطلب تحريكها ،بل ليس له إلا اللذة و الاستراحة المحضة ، فينبغي أن يستحب له ذلك ،ليتوصل به إلى المقصود الذي ذكرناه . نعم هذا يدل على نقصان عن ذروة الكمال هو الذي لا يحتاج أن يروح نفسه بغير الحق ، و لكن حسنات الأبرار سيئات المقربين ،و من أحاط بعلم علاج القلوب ، ووجوه التلطف بها ، و سياقتها إلى الحق ،علم قطعاً أن ترويحها بأمثال هذه الأمور دواء نافع لا غنى عنه » (الإحياء ص 1152 ، 1153 .) . . انتهي كلام الغزالي ، و هو كلام نفيس يعبر عن روح الإسلام الحق .
|