عرض مشاركة مفردة
  #1  
قديم 22-01-2006, 05:44 PM
أبو إيهاب أبو إيهاب غير متصل
مشرف
 
تاريخ التّسجيل: Mar 2004
المشاركات: 1,234
إفتراضي الحقيقة بين الغلو والتفريط .. د. يوسف القرضاوى

كتب: الإسلام والفن

مقـدمـة

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ،وعلى اله وصحبه من اتبع هداه .
أما بعد . . .

فقد قلت في كتابي « بينات الحل الإسلامي »: لعل« الفن » هو أكثر ما يشغب به على دعاة « الحل الإسلامي » فهم يقولون: إنكم تدعون إلى حياة تحرم فيها البسمة على كل فم ، والبهجة على أي قلب ، و الزينة في أي موقع ، والإحساس بالجمال في أي صورة .

وأحب أن أقول : إن هذا الكلام لا أساس له من دين الله . وإذا كان روح الفن هو شعور بالجمال ، والتعبير عنه ، فالإسلام أعظم دين – أو مذهب – غرس حب الجمال والشعور به في أعماق كل مسلم .

وقاري ء القرآن يلمس هذه الحقيقة بوضوح وجلاء وتوكيد ، فهو يريد من المؤمنين أن ينظر إلى الجمال مبثوثاً في الكون كله، في لوحات ربانية رائعة الحسن ، أبدعتها يد الخالق المصور ، الذي أحسن خلق كل شيء ، وأتقن تصوير كل شيء : (الَذِي أََحُسَنَ كلَ شَيُءٍ خَلَقَه( السجدة(7) ، ( مَّا تَرَى فِي خَلُقِ الُرَحُمَن مِن تَفَوتُ) الملك(3) ، ( صنُع اللَهِ الَذِي أََتُقَنَ كُلَ شَيُ ء ) النمل(33) .

ثم نري القرآن الكريم يلفت الأنظار ، وينبه العقول والقلوب ، إلي الجمال الخاص لأجزاء الكون ومفرداته . .
إن القرآن بهذا كله ، وبغيره ، يريد أن يوقظ الحس الإنساني ، حتى يشعر بالجمال الذي أودعه الله فينا وفي الطبيعة من فوتنا ، ومن تحتنا ، ومن حولنا . و أن نملأ عيوننا وقلوبنا من هذه البهجة ، وهذا الحُسن المبثوث في الكون كله .

وبعض الحضارات تغفل هذا الجانب و توجه أكبر همها إلى محاولات الإنسان إلى نقل جمال الطبيعة على حجر أو ورق ، أو غير ذلك ، فهو يرى السماء أو البحر أو الجبل ، أو الأنعام ،ولا يلتفت إلي فيها من سر الجمال الإلهي ، و إنما يلتفت إليها حين تنفل إلي لوحة ، أو صورة مشكلة ، فليت شعري أيهما أهم وأقوي تأثيراً في النفس البشرية : الأصل الطبيعي أم الصورة المقلدة ؟

إن الإسلام يحيي الشعور بالجمال ، ويؤيد الفن الجميل ، ولكن بشروط معينة ، بحيث يصلح ولا يفسد ، ويبني ولا يهدم .
وقد أحيا الإسلام ألواناً من الفنون ، ازدهرت في حضارته وتميزت بها عن الحضارات الأخرى مثل فن الخط والزخرفة والنقوش : في المساجد ، والمنازل ، والسيوف ، والأواني النحاسية والخشبية والخزفية وغيرها .

كما اهتم بالفنون الأدبية التي نبغ فيها العرب من قديم ، وأضافوا إليها ما تعلموه من الأمم الأخرى ، وجاء القرآن يمثل قمة الفن الأدبي ، وقراءة القرآن وسماعه عند من عقل وتأمل إنما هما غذاء للوجدان والروح لا يعدله ولا يدانيه غذاء ، وليس هذا لمضمونه ومحتواه فقط ، بل لطريقة أدائه أيضاً ، وما يصحبها من ترتيل وتجويد وتحبير تستمتع به الآذان ، وتطرب له القلوب ، وخصوصاً إذا تلاه قاري ء حسن الصوت ، ولهذا قال النبي ( صلي الله عليه وسلم ) لأبي موسى : «لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود » رواه البخاري والترمذي.

ولا مرا ء في أن موضوع «الفن » موضوع في غاية الخطر والأهمية ، لأنه يتصل بوجدان الشعوب و مشاعرها ، و يعمل على تكوين ميولها و أذواقها ، واتجاهاتها النفسية ، بأدواته المتنوعة والمؤثرة ، مما يسمع أو يقرأ ، أو يرى أو يحس أو يتأمل .

ولا مراء في أن الفن كالعم ، يمكن أن يستخدم في الخير والبناء ، أو في الشر و الهدم ، و هنا خطورة تأثيره .
ولأن الفن وسيلة إلى مقصد ، فحكمه حكم مقصده ، فإن استخدم في حلال فهو حلال ، و إن استخدم في حرام فهو حرام .
وقد عرضت لموضوع « الفن » وموقف الإسلام منه ، في أكثر من كتاب لي ، عرضت له في كتابي « الحلال والحرام في الإسلام » في فضل « اللهو والترفيه في حياة المسلم » ، وفي الحديث عن الصور والتصوير ، وفي مواضع أخرى .

وعرضت له في كتابي « فتاوى معاصرة » في جزئه الأول ، وجزئه الثاني ، في فتاوى متعددة حول التصوير والغناء ، بآلة وبغير آلة ، و الدين و الضحك ، و اللعب و الشطرنج ، و غيرها .

وعرضت بتفصيل أو في هذا البحث الذي يتناول « الفنون » بأنواعها المتخلفة ، المسموع منها والمشاهد ، وألوان اللهو واللعب ما يضحك وما يبكي ، وذلك باعتباره ملمحاً بارزاً من « ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده » . وفصل الفن واللهو فصل أساسي من كتابنا هذا عن ملامح المجتمع .

وقد قرأ بعض الإخوة من الدعاة وأهل العلم والفكر هذا البحث ، أو هذا الفصل ، فوجدوه وافياً في موضوعه ، مقنعا في أدلته ، أصيلاً في نظرته، معاصراً بواقعيته ، فطلبوا إلي أن أفرده بالنشر ، ليعم النفع به ، فقد لا يلتفت الناس إليه وهو جزء من كتاب كبير ، وقد يتعسر على بعض الناس شراؤه .

فلم أجد بداً من الاستجابة لهم ، راجيا أن ينفع الله بهذا البحث كل من قرأه ، وأن يجزي خيراً كل من شهره ونشره .
وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين .

القاهرة : ربيع الأول 1416هـ
أغسطس ( آب ) 1995 م .
د . يوسف القرضاوي


كتب: الإسلام والفن

غياب الحقيقة بين الغلو والتفريط

لعل أغمض الموضوعات وأعقدها فيما يتعلق بالمجتمع المسلم : اللهو والفنون .
وذلك أن أكثر الناس وقعوا في هذا الأمر بين طرفي الغلو والتفريط . نظراً لأنه أمر يتصل بالشعور والوجدان ، أكثر مما يتصل بالعقل والفكر ، وما كان شأنه كذلك فهو أكثر قبولا للتطرف والإسراف من ناحية ، في مقابلة التشدد والتزمت من ناحية أخرى .

فهناك من يتصورون المجتمع الإسلامي مجتمع عبادة ونسك ، ومجتمع جد وعمل ، فلا مجال فيه لمن ويلعب ، أو يضحك ويمرح ، أو يغني ويطرب . لا يجوز لشفة فيه أن تبتسم ، ولا لسن أن تضحك ، ولا لقلب أن يفرح ، ولا لبهجة أن ترتسم على وجوه الناس ! !

وربما ساعدهم على ذلك سلوك بعض المتدينين ، الذين لا ترى أحدهم إلا عابس الوجه ، مقطب الجبين ، كاشر الناب ، وذلك لأنه إنسان يائس أو فاشل أو مريض بالعقد والالتواءات النفسية ، ولكنه برر ذلك السلوك المعيب باسم الدين ، أي أنه فرض طبيعته المنقبضة المتوجسة على الدين ، والدين لا ذنب له ، إلا سوء فهم هؤلاء له ، وأخذهم ببعض نصوصه دون بعض .

وقد يجوز لهؤلاء أن يشددوا على أنفسهم إذا اقتنعوا بذلك ، ولكن الخطر هنا : أن يعمموا هذا التشديد على المجتمع كله ، ويلزموه برأي رأوه ، في أم عمت به البلوى ، ويمس حياة الناس كافة .

وعلى العكس من هؤلاء : الذين أطلقوا العنان لشهوات أنفسهم ، فجعلوا الحياة كلها لهوا ولعبا ، وأذابوا الحواجز بين المشروع والممنوع . . . بين المفروض والمرفوض . . . بين الحلال والحرام .

فتراهم يدعون إلي الانحلال ، ويروجون الإباحية ، ويشيعون الفواحش ما ظهر منها وما بطن باسم الفن ، أو الترويح ، و نسوا أن العبرة بالمسميات والمضامين ، لا بالأسماء والعناوين . والأمور بمقاصدها .

لهذا كان لا بد من نظرة منصفة إلي الموضوع – بعيداً عن إفراط هؤلاء ، وتفريط أولئك – في ضوء النصوص الصحيحة الثبوت ، الصريحة الدلالة ، وفي ضوء مقاصد الشريعة وقواعد الفقه المقررة كذلك .

ولا أستطيع في هذا المجال التفضيل ، فقد كتبت في مفردات الموضوع في أكثر من كتاب لي . وخصوصا في « الحلال والحرام في الإسلام » ، و (( فتاوى معاصرة )) الجزء الأول والجزء الثاني . . وعلى الأخص الثاني .