هذا العبقري في حمته، حين تضمّه صومعته..
والعبقري في فدائيته، حين يقف فوق أرض القتال..
هو كذلك العبقري في كل مهمةتوكل اليه، ومشورةتطلب منه.. فحين انتقل سعد بن أبي وقاص والمسلمون معه من المدائن الى الكوفة واستوطنوها..
وذلك بعد أن أنزل مناخ المدائن بالعرب المسلمين أذى بليغا.
مما جعل عمر يكتب الى سعد كي يغادرها فورا بعد أن يبحث عن أكثر البقاع ملاءمة، فينتقل بالمسلمين اليها..
يومئذ من الذي وكل اليه أمر اختيار البقعة والمكان..؟
انه حذيفة بن اليمان.. ذهب ومعه سلمان بن زياد، يرتادان لمسلمين المكان الملائم..
فلما بلغا أرض الكوفة، وكانت حصباء جرداء مرملة. شمّ حذيفة عليها أنسام العافية، فقال لصاحبه: هنا المنزل ان شاء الله..
وهكذا خططت الكوفة وأحالتها يد التعمير الى مدينة عامرة...
وما كاد المسلمون ينتقلون اليها، حتى شفي سقيمهم. وقوي ضعيفهم. ونبضت بالعافية عروقهم..!!
لقد كان حذيفة واسع الذكاء، متنوع الخبرة، وكان يقول للمسلمين دائما:
" ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة.. ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا.. ولكن الذين يأخذون من هذه ومن هذه"...
**
وذات يوم من أيام العام الهجري السادس والثلاثين..دعي للقاء الله.. واذ هو يتهيأ للرحلة الأخيرة دخل عليه بعض أصحابه، فسألهم:
أجئتم معكم بأكفان..؟؟
قالوا: نعم..
قال: أرونيها..
فلما رآها، وجدها جديدة فارهة..
فارتسمت على شفتيه آخر بسماته الساخرة، وقال لهم:
" ما هذا لي بكفن.. انما يكفيني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص..
فاني لن أترك في القبر الا قليلا، حتى أبدّل خيرا منهما... أو شرّ منهما"..!!
وتمتم بكلمات، ألقى الجالسون أسماعهم فسمعوها:
" مرحبا بالموت..
حبيب جاء على شوق..
لا أفلح من ندم"..
وصعدت الى الله روح من أعظم أرواح البشر، ومن أكثرها تقى، وتآلقا، واخباتا
سلام على حذيفة بن اليمان..
سلام عليه في محياه، وأخراه..
وسلام.. ثم سلام على سيرته وذكراه..
وسلام على الكرام البررة.. أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم