أنواع النصوص الشرعية ومنطقة الاجتهاد فيها:
ونصوص الشريعة منها القطعي ومنها الظني، نصوص لا مجال فيها للخلاف، ونصوص لا مندوحة فيها عن الخلاف، فإذا كانت النصوص تحتمل أكثر من فهم، فلا يوصف أي فهم منها بأنه (رأي الإسلام)، وإنما يوصف بأنه (رأي إسلامي)، لكي لا ننكر على غيرنا فهمه، ولا نعتبر رأينا هو الوحيد المعتبر، وأن من سار على غيره لم يلتزم بحكم شرعي.
وإذا رأينا أن فهم غيرنا مرجوح ضعيف جاز لنا أن نقول: (أخطأ فلان) وفي هذا القسم من الشرع إذا قيل للعالم أخطأت فمعنى ذلك أنه قيل له " أثبت أجرا واحدا " - مع احتمال الصواب - فهو ليس ذما له ولا إلحاقا للإثم به مطلقا، بل على العكس.
أما في المسائل والنصوص التي لا تحتمل أكثر من فهم أو معنى فيقال للمعنى المستفاد منها إنه (رأي الإسلام) [1] وما عهدنا العلماء الربانيين يختلفون في هذا القسم من الدين، والرأي الخاطئ هنا لا يقال لصاحبه: (اجتهدت فأخطأت فلك أجر واحد)، فليس هذا موضعه.
وإنما ينكر على صاحب مثل هذا الرأي، ولا يحترم رأيه ولا يعتبر رأيا إسلاميا ويعتبر معصية ولو كان ذلك هو أحد الأئمة كالإمام الشافعي رحمه الله .
لا يقال "اجتهد وأخطأ" لأن الاجتهاد له موضعه، ولا يجوز أن يوجد في "المنطقة المغلقة" من الشريعة - كما يقال - وهي التي لا مجال فيها للخلاف.
ونحن لا نجيز لأنفسنا عدم احترام آراء العلماء التي تخالف قناعاتنا ولا نجيز التحذير من آرائهم ونعتها بأنها ليست من الاسلام، ولكننا في الوقت نفسه نرى أن من واجبنا نحو الشريعة عدم احترام الآراء التي تخالف القطعيات وتخرق الإجماعات والتحذير منها، وتبرئة الإسلام منها.
ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة:
عقد الإمام مسلم في مقدمة صحيحه بابا فقال: (باب بيان... أن جرح الرواة بما هو فيهم جائز، بل واجب، وأنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة)، وذكر في الباب آثارا تدل على هذا المعنى، ومنها ما رواه بسنده إلى عبد الله بن المبارك قال: قلت لسفيان الثوري إن عبّاد بن كثير من تعرف حاله (يعني في الصلاح والتقوى)، وإذا حدث جاء بأمر عظيم (أي لسوء حفظه وعدم ضبطه)، فترى أن أقول للناس: لا تأخذوا عنه؟ قال سفيان: بلى، قال عبد الله (يعني ابن المبارك): فكنت إذا كنت في مجلس ذكر فيه عبّاد أثنيت عليه في دينه وأقول لا تأخذوا عنه، وذكر بسنده إلى شعبه أنه قال: هذا عباد بن كثير فاحذروه، وبسنده إلى يحيى بن سعيد قال: سألت سفيان الثوري وشعبة ومالكا وابن عينية، عن الرجل لا يكون ثبتا في الحديث، فيأتيني الرجل فيسألني عنه، قالوا: أخبر عنه أنه ليس بثبت.
ثم قال الإمام مسلم رحمه الله: (وفيما ذكرنا كفاية لمن تفهم وعقل مذهب القوم، فيما قالوا من ذلك وبينوا. وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار، وأفتوا بذلك حين سئلوا لما فيه من عظيم خطر، إذ الأخبار في أمر الدين، إنما تأتي بتحليل أو تحريم، أو أمر أو نهي، أو ترغيب أو ترهيب).أهـ.
قلت: فكما أن سلفنا الصالح قاموا بالكشف عن حال الرواة ووصفوهم بما فيهم من أجل الحفاظ على الحديث النبوي وعدم الزيادة فيه، لما في ذلك من شر مستطير، ولم يتحرجوا من ذلك بحجة أنها غيبة، فكذلك نحن نسير في الذب عن الشريعة.
من الدين كشف الستر عن كل كاذب وعن كل بدعي أتى بالعجائب
ولولا رجال مؤمنون لهدمت صوامع دين الله من كل جانب
وذكر الإمام النووي رحمه الله في رياض الصالحين: (باب ما يباح من الغيبة). وذكر ستة أسباب تباح بها الغيبة وقال عند السبب الرابع: (الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه… منها جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك سائر بإجماع المسلمين بل واجب للحاجة… ومنها إذا رأى متفقها يتردد إلى مبتدع، أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقة بذلك فعليه نصيحته ببيان حاله بشرط أن يقصد النصيحة وهذا مما يغلط فيه، وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد، ويلبس الشيطان عليه ذلك، ويخيل إليه أنه نصيحة، فليتفطن لذلك).
وكذلك قد قام سلفنا بقمع أهل الآراء المبتدعة، والتشهير بهم وانظر لقول ابن المبارك في جهم بن صفوان، قال: عجبت لدجال دعا الناس إلى النار، واشتق اسمه من جهنم، وشهروا كذلك بالجعد بن درهم ودونوا أسماءهم وغيرهم في كتب الجرح والتعديل وعلم الرجال، فمن عُرف بمنهجه الزائغ وتأويله الباطل (أي اللعب كما يسميه صاحب جمع الجوامع) فلا يكتم عليه، بل يشهر به.
فنرى عدم احترام العلماء الذين نافقوا حكام الجور وشهدوا شهادات الزور لهم كما قال بعضهم في وصف حكام الجور حكام مصر: (إنهم لا يردّون على الله حكما، وإنهم يعملون جاهدين على أن تبلغ الدعوة الإسلامية مداها تحقيقا وتطبيقا)، وأيضا: (ثقتنا كبيرة في دولتنا أن تزداد حرصا على إحقاق الحق وإبطال الباطل وتدعيم الفضائل والقيم الدينية والخلقية)، وذلك في بيان "المجلس الإسلامي المستقل" في 1/1/1989 عقب أحداث عين شمس التي زج فيها حملة الدعوة في السجون - انظر (الحصاد المر للدكتور الشيخ أيمن الظواهري ص 67)..
إننا لا نجيز لأنفسنا السكوت عن علماء السلاطين الذين قالوا ما قالوه في وصف حكام مصر، بينما نرى السكر والعُري والفضائح و(السفارة الإسرائيلية)! في مصر، أبعدها نقول؛ (إنهم لا يردون على الله حكماً و….) أولئك الذين خرقوا الإجماع الحاصل على أن المرتد يقتل بحبسه، وما ذلك إلا رضوخا لـ "حرية العقيدة "- إحدى ركائز الديمقراطية - بقدر المستطاع.
والعجيب أن يصدر هذا الرأي في رسالة سميت "جريمة الردة وعقوبة المرتد في ضوء القرآن والسنة!!"- وهو للمدعو يوسف القرضاوي - إنها لا تعمى الأبصار عن ضوء القرآن والسنة ولكنها تعمى البصائر. {إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}.
ونرى البعض يجيز أن يكون في ظل الدولة الإسلامية حزب شيوعي مرخص!!
إننا لا نستغرب أن تصدر هذه الآراء من كُتَّاب وصحفيين علمانيين، ولكننا نستنكرها ونستهجنها عندما تصدر من بعض أهل العلم!
أيرضى القارئ الكريم أن نحترم مثل هذه الآراء! وأصحابها! ونقول: (لحوم العلماء مسمومة)، فهل أصبح العلماء أغلى من الشريعة، وإذا اعتبر النيل من العلماء جريمة، أليس ما يقوم به البعض من النيل من الشريعة جريمة تستحق أن يعلن الله وجنوده الحرب عليهم؟؟؟
إن الدين أعظم من هؤلاء، وسنتمسك - إن شاء الله - بالكتاب وبالسنة ونذود عن حمى الشريعة، ولا نتباكى على النصوص!!! - كما زعم بعضهم فالله حسيبه والله المستعان -، نسأل الله الثبات والعصمة والسداد.
تم بحمد الله
[بقلم؛ أبي الهيثم السلفي]