سعة علمه
من العلماء من برع ولكن في فن واحد , فمنهم المحدث الجهبذ في حديثه , ومنهم العلامة في فقهه , ومنهم الفرد في تاريخه , ومنهم الأوحد في أدبه , ولكن ابن تيمية كان بحرا لا تكدره الدلاء , فهو المنظّر لأهل السنة في باب المعتقد , وهو المحدث الناقل البصير الجهبذ في علم الحديث روايةً و درايةً , وفي علم الرجال , حتى شهد له المزي _ وكفى به شاهدا _ في هذا التخصص , فكان يجرح ويعدل ويميز بين الروايات , ويعرف هذا الفن معرفة دقيقة تامة , وقد استولى على جميع أبوابه وعلى جميع فصوله وفنونه , وهو في استنباط النص آية من آيات الله عز وجل , فكان يورد الآية والحديث ثم يورد كلام أهل العلم ممن سبقه , ثم يأتي بكلام زائد على كلامهم , وربما انتقد كلامهم أو وافقه أو عارضه أو سكت , وكان أعجوبة في التفسير , يقرأ _ كما ذكر عن نفسه _ أكثر من مائة تفسير في الآية , ثم يدعو الله ويتضرع إليه ويسأله فيفتح عليه سبحانه وتعالى علما في الآية لم يكن مكتوبا من ذي قبل , وربما أملى في الآية الواحدة كراريس , ونقلوا عنه انه بقي سنوات طويلة في شرح قوله تعالى : ( إنا أرسلنا نوحا إلى قومه ) , وكان يأتي بالآية الواحدة ربما يذكرها بعد صلاة العصر في مجلسه فيغلق عينيه , ثم يذكر الأقوال والترجيحات و الاختلافات والتقولات وما قيل فيها , معترضا و موجها و مصححا و مقررا حتى صلاة المغرب , كما قرأ الفلسفة ورد على الفلاسفة وزيف كثيرا من أقوالهم وردها إلى الوحي , ورد على علماء الطوائف من رافضة و معتزلة و جهمية و أشاعرة و صوفية و دهرية ويهود ونصارى , وكل ذلك وهو معتصم بالدليل , سائر مع النص , متحاكم إلى الوحي ..
.. يتبع ..