وجوب لزوم جماعة المسلمين والإصلاح بينهم
يقول الشيخ (24) - رحمه الله - في الحث على لزوم جماعة المسلمين وعلاج ما يحصل بينهم من اختلاف وسوء تفاهم، يقول في ذلك: فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاً أو غاوياً وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وإذا كان قادراً على أن يوليَ من إمامة المسلمين ( يعني في الصلاة ) الأفضل ولاه، وإن قدر على أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه، وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه والأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً ) (25)، وإن كان في هَجره لمُظْهِِر البدعة والفجور مصلحة راجحة هَجَره؛ كما هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم (26). أما إذا وُلِّي غيره بغير إذنه وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية؛ كان تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلاً وضلالاً، وكان قد رد بدعة ببدعة. حتى إن المصلي الجمعة خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة وكرهها - يعني: الإعادة - أكثرهم. حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس: من أعادها فهو مبتدع. وهذا أظهر القولين؛ لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، ولم يأمر الله تعالى قط أحداً إذا صلى كما أُمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة.
ولهذا كان أصح قولي العلماء: أن من صلى بحسب استطاعته أن لا يعيد، حتى المتيمم لخشية البرد، ومن عدم الماء والتراب إذا صلى بحسب حاله، والمحبوس وذوو الأعذار النادرة والمعتادة والمتصلة والمنقطعة؛ لا يجب على أحد منهم أن يعيد الصلاة إذا صلى الأولى بحسب الاستطاعة، وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة صلوا بغير ماء ولا تيمم لما فقدت عائشة عقدها ولم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة (27)
بل أبلغ من ذلك أن من كان يترك الصلاة جهلاً بوجوبها لم يأمره بالقضاء، فعمرو وعمار لما أجنبا وعمرو لم يصل وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة؛ لم يأمرهما بالقضاء (28)، وأبو ذر لما كان يجنب ولا يصلي لم يأمره بالقضاء (29)،والمستحاضة لما استحاضت حيضة شديدة مُنكرة منعتها الصلاة والصوم لم يأمرها بالقضاء (30) والذين أكلوا في رمضان حتى يتبين لأحدهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود لم يأمرهم بالقضاء، وكانوا قد غلطوا في معنى الآية، فظنوا أن قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، هو الحبل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما هو سواد الليل وبياض النهار ) (31)، ولم يأمرهم بالقضاء. والمسيء في صلاته لم يأمره بإعادة ما تقدم من الصلوات، والذين صلوا إلى بيت المقدس بمكة والحبشة وغيرهما بعد أن نسخت بالأمر بالصلاة إلى الكعبة، وصاروا يصلون إلى الصخرة حتى بلغهم النسخ؛ لم يأمرهم بإعادة ما صلوا، وإن كان هؤلاء أعذر من غيرهم لتمسكهم بشرع منسوخ.
ثم أراد الشيخ - رحمه الله - أن يجلي حكم هذه المسألة عند العلماء فقال: وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله؛ هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ ؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، قيل: يثبت. وقيل: لا يثبت. وقيل: يثبت المبتدأ دون الناسخ. والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وفي " الصحيحين " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ) (32)، فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه كم المعاند والفاجر، بل قد جعل الله لكل شيء قدرا.
وقال (33) - رحمه الله - : وأما الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع وخلف أهل الفجور ففيه نزاع مشهور، لكن أوسط الأقوال في هؤلاء أن تقديم الواحد من هؤلاء في الإمامة لا يجوز مع القدرة على غيره؛ فإن كان مظهراً للفجور أو البدع يجب الإنكار عليه ونهيه عن ذلك، وأقل مراتب الإنكار هجره لينتهي عن فجوره وبدعته، ولهذا فرق جمهور الأئمة بين الداعية وغير الداعية. فإذا الداعية أظهر المنكر فاستحق الإنكار عليه، بخلاف الساكت فإنه بمنزلة من أسر بالذنب، فهذا لا ينكر عليه؛ فإن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة؛ ولهذا كان المنافقون تقبل منهم علانيتهم وتوكل سرائرهم إلى الله تعالى بخلاف من أظهر الكفر؛ فإذا كان داعية مُنع من ولايته وإمامته وشهادته وروايته لما في ذلك من النهي عن المنكر لا من أجل فساد الصلاة أو اتهامه في شهادته وروايته. فإذا كان لإنسان أن لا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة وجب ذلك، لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان هو لا يتمكن من صرفه إلا بشرّ أعظم ضرراً من ضرر ما أظهره من المنكر؛ فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين؛ فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً، فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته لم يجز ذلك، بل يصلي خلفه ما لا يمكنه فعلها إلا خلفه، كالجمع والأعياد والجماعة إذا لم يكن هناك إمام غيره، ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج والمختار بن أبي عبيد الثقفي وغيرهما الجمعة والجماعة؛ فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فساداً من الاقتداء فيهما بإمام فاجر.
|