عرض مشاركة مفردة
  #1  
قديم 12-04-2006, 07:04 AM
أحمد ياسين أحمد ياسين غير متصل
من كبار الكتّاب
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2005
الإقامة: فرنسا
المشاركات: 6,264
إفتراضي المأزق الفكري للتيار السلفي




مراجعة نقدية لبعض المفاهيم
بقلم/ عمر مناصرية
السلفية حركة من الحركات الدينية التي كثر حولها الجدل والنقاش ، وصارت حديثا للعام والخاص ، وذلك لما لاقته من الرواج بين فئات داخل ما يسمى بالصحوة الإسلامية، ولما جاءت به من الدين ، يعتبر في أذهان الكثيرين جديدا ، أو لم يكن معروفا من قبل . وهذا وهم من الأوهام ، يستشري في عصور الانحطاط خاصة ، كالتي نعيشها اليوم .



وهذه الحركة يمكن أن نعذرها بالنظر إلى الظرف الذي تطرح فيه ، وهو ظرف عصيب ، ملئ بالفتن و الأهواء ، وملئ بالحقد على الإسلام ، في بلاد المسلمين وفي غيرها ، حتى أن القابض على دينه ، كالقابض على الجمر ، على أن ذلك لا يمنعنا من نقدها على نحو من الأنحاء ، وتحري الصواب من الخطأ ، فيما تطرحه من مقولات وأفكار ، لأن ترك الأمور على ما هي عليه من المحال الذي تأباه العقول ، خاصة إذا تشوش هذا الأمر ، واختلط فيه الحق بالباطل ، وكان متعلقا بأمر من أمور الدين .

لماذا النقد :

النقد منتهى كل تفكير يحاول مغادرة حالة السكون التي هو فيه ، وهو تحرر من السلط المستحكمة على العقل ، خاصة ما يعتاده الناس ويألفونه ، سواء في تفكيرهم ، أو في حركتهم في الحياة ، أو فيما ينتجونه من الأفكار ، لأنه بدونه ، لا يمكن لفرد أو مجتمع أن يتقدم في طريقه ، وسيقف مراوحا مكانه ، لا يتجاوزه ، وذلك لأنه واقع في أسر الراهن والواقع والمألوف ، سابح في وحله ، لا يستطيع مجاوزته ، دون إحداث مسافة بينه وبين العقل ، تتيح له الخروج منه والنظر إليه دون خوف ، وذلك ما يحدث للإنسانية جمعاء ، في لحظات معينة ، تقف فيها ناقدة لما مر بها أو لما تعيشه ولا تستطيع تجاوزه ، وهو ما يحدث في العلم أيضا ، ولدى الأفراد ، حين ينتقلون من مرحلة إلى مرحلة ، ومن وضع إلى وضع ، أو لدى المجتمعات ، حين تجد نفسها تقلع عن مرحلة كاملة ، لتدخل أخرى ، وهي لا تكاد تنتبه إلى ذلك ، دون وجود حركة فكرية مقابلة ، ترشد وتعقلن هذا لتغير ، وتسدده نحو سبله الصحيحة ، وهذا من معاني النقد .

لهدا كله ينبغي أن نمارس النقد ونوظفه ، فلا ندع سلطان الأشياء أو الخوف يستحكم فينا ، ولهذا يجب نقد الحركات والأفكار جميعا ، مهما بدت عظيمة ، أو مستعصية على النقد .

وسأتخذ في نقدي هذا المتواضع للحركة السلفية ثلاث سبل ، أولاها أن أبين أن كثيرا من المقولات التي تعتمدها السلفية مقولات خارجة عن الصواب ، خاصة ما يعتمد فيه على الأحاديث ، وثانيها أن أبين أن تطور التدين في الزمان ، وطريقة تنزله ، والعلاقات بين عناصره وأركانه ، يرفض كل تفكير مجزأ ، ومنه التفكير السلفي ، وثالثها أن أبين أن آلية تفاعل الإسلام مع الواقع والحضارات ، واستثماره لها ، يرفض هذه الحركة أيضا.




أولا : أن التيار السلفي يعتقد في مجموعة من الأحاديث التي يتخذها منهجا له ، وهده الأحاديث إنما تم اجتزاؤها من الدين كله ، ومنحت لها سلطة فوق السلط ، ومكانة فوق المكانة ، بتوظيف مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإقحام شخصه فيها ، فأصبح الحديث نفسه مثيرا لتك السلطة وقابضا عليها ، ثم أصبح الذين يأخذون بهذه الأحاديث ، يمتلكونها أيضا ، فحازوا في الأذهان سلطة ليست لهم . وأي تأمل بسيط ، يبين لنا خطأ هده القاعدة ، إذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم ، إنما أوذي في نفسه وماله وأهله ، وحاز المكانة التي استحقها ، بإعلانه فكرة جديدة لم تكن من قبل ، وهي فكرة أن الله واحد ، وهو أي الرسول صلى الله عليه وسلم ، تجربة فذة في الآفاق ، لا يستطيع أحد وصولها مهما بلغ ، وهذا الخلط في الأذهان ، المتمثل في مماهاة مكانته ، واستثمارها سلطة في الناس بمجموعة من الأحاديث ، خطأ فادح يستولي على العقول الضعيفة ، التي لا تعرف مكانة الرسول الحقيقية ، وقد يقول قائل إن ذلك عائد إلا الاستنان بسنته ، فهي التي منحتهم هذا التهويل ، والحق أن ذلك توظيف خاطئ للسنة ، لأنه يجتزئ منها فقط ما يخدم أغراض السلفية ، كما سيتبين لا حقا .



ولننتقل إلى تلك الأحاديث التي تثير هذه الدهشة ، وأول ما يتبادر إلى الذهن هو أنه لا يجب أن يكون لها كل هذا القدر من الأهمية المبالغ فيها ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤذ أبدا في طول سرواله أو شكل لباسه ، أو في تركه لحيته ، فالجميع من الكفار حينئذ ، ومن غيرهم ، كانت لهم لحى وطريقة لباس واحدة تفرضها العادة القبلية الواحدة . ولو أن الرسول دعا القوم قائلا : قصروا سراويلكم أو اعفوا عن لحاكم ، ما وجد أحدا يتبعه ، لأنهم جميعا كانوا يفعلون مثله ، فلا فرق بينهم وبينه ، فكان لزاما أن تكون الفكرة التي يأتي بها مميزة ممحصة للجميع ، وذلك لا يعود إلى العوائد المألوفة ، الظاهرة منها خاصة ، كشكل اللباس ، وطريقة الكلام ، وعوائد القبيلة ، لأن هذا مما يستثمره الإسلام كثيرا لتحقيق أهدافه ، بل يعود إلى الأفكار ، فبقدر ما تكون جديدة ، بقدر ما تكون مغيرة .

ومثل هذه الأحاديث التي يكثر حولها الجدل والنقاش وهي في مجموعها أحاديث قليلة ، لا يمكن أن تشكل لوحدها منهجا متكاملا ، وهي في مجملها عن تقصير اللباس ، وإعفاء اللحى ، وشكل الصلاة ، وآداب زيارة المقابر. والسؤال الذي يطرح حول هذه الأحاديث هو : هل أن سروال الرسول صلى الله عليه وسلم كان طويلا ، ثم أمر بتقصيره ، سواء بالوحي أو بغيره من الطرق ، من طرف الله عز وجل .أو أنه صلى الله عليه وسلم ، أو صحابته ، كانوا يحلقون لحاهم ، ثم أمروا بتركها. كما نجد ذلك حادثا في كثير من النواهي والفرائض ، كالخمر والربا ، والصيام والزكاة وغيرها ، فهي كانت موجودة ثم أمر الإسلام بتركها ، أو لم تكن موجودة فسنها الإسلام . إن ظاهر هذه الأحاديث يدل على أن الأمر كان يجري في عادة العرب ، وهو مما ورث عنها في عهد الإسلام ، بل إن سياق الأحاديث يدل على أنها من الآداب التي رعاها الإسلام ، وحرص على بيانها للناس ، ولكنها لا ترقى إلى مستوى الفريضة والواجب . وربما لاحظ الرسول صلى الله عليه وسلم ، خطورة التكبر والتجبر ، أو أنه رأى منه بوادر ، لا تخفى على الأنبياء ، فأراد التنبيه إلى ذلك ، فقال الحديث ، مما يقوي من الحديث الآخر المتعلق بالإزار ، وهو : ما تحت الكعبين من الإزار فهو في النار ، فقال أبو بكر إنه يفعل ذلك ، فقال له إنه ليس ممن يفعله خيلاء .فإذا كانت سنة واجبة ، فلماذا عذر أبو بكر فيها، وهو يزن بإيمانه إيمان الأمة، وكان الأولى باتباعها . والإزار مدعاة حقا للخيلاء والترفع ، وليس الآن من بين عامة المسلمين من يرتديه .



ثانيا : هو أن الإسلام إنما ابتدأ مند أحقاب بعيدة ، ونما على قدر حتى استوى واكتمل في الأمة الخاتمة ، ناهيك عن العلاقات التي تحكم بنيانه ، والتي حاول العلماء قديما وحديثا استجلاءها وفهمهما ، فكانت علوم الفقه وأصول الفقه ، وغيرهما من العلوم التي حاولت فهمه ، لذلك فالعلاقات بين أجزائه وطيدة ، فهو متين ، محكم ، انبنى على هده العلاقات حتى استوى ، وهي مما لا يزال مجهولا لدى المسلمين خاصة ، يؤكد ذلك اجتهاد العلماء في كل جزء من أجزائه ، خاصة مع تطور الزمان وحدوث الطوارئ والجديد ، وليس يخفى على أحد أن كسر هده العلاقات بتضخيم فرع من الفروع ، كسنة أو مستحب إلى الحد الذي يأخذ فيه مكان الأصل ، له خطورته من حيث التباس الدين على الناس ، وتفكك عراه ، وذهابه بعد ذلك . إذ أن السنن هي من الفروع والظنيات ، وهي متمايزة إلى مؤكدة ومستحبة أو مندوبة ، على اختلاف المذاهب في ذلك ، وليست بمنزلة الفروض والواجبات ، وإعطائها منزلة الفروض ، خاصة فيما يتعلق بما تقدسه السلفية ، يقلب الأمور ، ويغير الأحوال ، فتصير من سيئ إلى أسوأ .



وربما احتج البعض بأن الدين واحد، لا مجال فيه للفصل والتجزئة ، ولو كان هذا صحيحا ، لكان مخالفا لمنطق الأشياء وتكونها ، إذ أن الدين تكون أول ما تكون اعتمادا على هذه العلائق والوظائف ، ولم تفرض فروضه ولم تسن سننه مرة واحدة ، وإنما كانت حينا بعد حين حتى اكتمل ، وهذا ما تشير إليه الأحاديث الكثيرة ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : بني الإسلام على خمس : شهادة أن لاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت . أو : الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أعلاها قول لاإله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، وغيرها من الأحاديث التي توضح إنبناء الإسلام على أركان ، وعلاقات بين هذه الأركان ، لا يتم واحد منها دون الآخر ، كما لا تتوضع جميعا في مراتب واحدة ، أو تكون لها نفس الأهمية .

وفي هذا حكمة بالغة ، تتعلق بسر من أسرار هذا الدين ، ومكمن من مكامن قوته ، وسبب استعصائه على محاولات التدجين ، لأنه من الطبيعي أن تكون الروابط المتكونة بين الأركان والعناصر جميعا ، وشكل تموضعها أول مرة والفراغات التي روعيت بينها ، والمرونة التي تكتسبها أثناء التنزل ، كل هذا يجعل منها نظاما قائما بنفسه ، أقيم على منهج واضح ، متحلل إلى أركان وأصول وفروع ، أي من الكل إلى الجزء ، ومن الأصل إلى الفرع ، مثلما نجده في البناء الطبيعي ، حيث أن الكائنات تحوز قوتها اعتمادا على بنائيتها الداخلية ، فكلما كانت متفقة مع البنائية السابقة ، أي التكون من الكل إلى الجزء ، كلما استمرت في البقاء فترة طويلة . وإذا لا حطنا النظام الإسلامي في تكونه ، نجده قد انبنى وفق تلك الآلية ، من الأركان العظيمة ، إلى الأصول الكلية ، إلى الفروع ، إلى الأجزاء الصغيرة ، مثلما نجده مذكورا في الحديث السابق : الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أعلاها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق .وهذه المنهجية ، هي التي منحته قوته طوال القرون الخالية ، ولو أنه تنزل مرة واحدة ، لذهب أثره سريعا ، ولم يكن لنا نحن الآن أن نعرفه ، أو نعيشه . وما ذلك إلا لأنه متماثل مع البناء الطبيعي ، وقائم وفق منهجيته .

.