عرض مشاركة مفردة
  #17  
قديم 12-04-2006, 03:50 PM
محمد إبراهيم محمد إبراهيم غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Feb 2006
المشاركات: 35
إفتراضي

الحلقة الرابعة:

أعلم أن هذه الحلقة ينتظرها الكثير على أنها ليست الأكثر إثارة من بين الحلقات، وذلك أن فيها أول لقاء جمعني بمن اكتسح العالم الاسلامي بشهرته، وتسابقت القنوات لاستضافته، وتهافت كثير من الناس للالتقاء به. لن أُقيّم ولن أتحيز ولكن أترك للقارئ الكريم الحكم بعد الإطلاع، ومن صاحب اللب الحصيف أطلب الإنصاف، وذلك بعد سرد الحقائق لا سواها من غير تزييف ولا كذب.

لقد تلقيت في حياتي صفعات ما ندمت قط يوماً على تلقيها، لأنها تضيف إلي قوة وصلابة، خبرة ودربة، حنكة وحكمة. تعلمت من خلالها كيف أواجه الخصم العنيد، وأجالس ذا العقل الرشيد، وأتجاهل السفيه. تعلمت أن ما فات لا يمكن إرجاعه ولا إصلاح ما عطب منه على الأغلب، لكن الخطأ لا يتكرر إذا استوعبت الدرس، واستعنت بالله ثم بالحدس، فإن الله لا يخيب رجاء من سأله صادقاً وعاد إليه منيباً تائباً...


حضرت بعد ذلك المولد عدة موالد كانت كلها تقام في نفس المكان من كل يوم أربعاء، كل مرة أتفاجأ بطالب من طلبة الجامعة قد وقع في حبائلهم، وأظن بل أجزم أن كل من رآني منهم كان له نفس الشعور الذي جال في خاطري تجاه كل منهم.

ليس من السهل أن تتداخل وسط مجتمع مترابط متماسك لتكون أنت الغريب بينهم، وإن لم يُشعروك بذلك. كان صاحبي الصوفي يحس ويعلم أني أمشي حَذِراً على هذه الطريق، خائفٌ أترقب، أتوجس من كل شيء وأسأل عن كل شيء، فكان حذراً ألا يقع على مسامع أذني شيئاً من خرافاتهم التي لا يقبلها مجنون ولا يُقر بها طفلٌ غر، إلا من كان الران على قلبه فإنه بعيد عن سبيل الهداية يهوي بها في ظلمات الغواية إلا أن ينقذه الله منها فهو نعم الناصر والهادي، وإذا وقع الذي كان يحذر منه أو يخاف فإنه سرعان ما كان يبادر إلى محوها من ذاكرتي أو تشتيتها. كان قصده من ذلك أن أتدرج حتى أثبت، لكني كنت أشق الصفوف والناس بحثاً عن حقيقةٍ بَعٌدَت عني لسنوات طوال وغِبْتُ عن العيش في كنفها دهراً... كنت أسأل في كل شاردة وواردة تخرج من أفواههم وهو يحاول منعي من الاتصال بجماعته بشكل لبق غير رسمي إلا بحضوره ليكون رقيباً على كل ما يقال وينطق به قومه..

لقد كنت أقف عند مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في كل حوار كالشوكة الراسية الشامخة في البلعوم الضيق. كثيراً ما كان ينفض المجلس بقوله إذا لم تؤمن بهذه المسألة فهذا شأنك. وكنت أكرر عليه السؤال: هل رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضة فيقول: لا.
فأقول له: لماذا لم تره؟ ألم تقل لي أن الذي يحب النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يراه.
فيقول: نعم، لكن الناس درجات.
فأرد عليه: هل في قلبك شك من حب النبي صلى الله عليه وسلم.
فيقول: لا. لكن عليك أن تبلغ درجة معينة حتى تراه يقضة.
فأكرر عليه السؤال حتى يمل. إذ كنت أراه غارقاً في المحبة لكنه الإصرار على الجهل. وكان يعرف ما أرمي إليه فيسكت.

مرت الأيام وإذا به يبشرني أن علي الجفري قادم للدمام قريباً لإحياء مولد لا أذكره الآن، فقد كانت مناسباتهم كثيرة لا تنتهي طوال السنة. كان يعلم أني بإنتظار رؤيته فلقد تكلمنا كثيراً عنه، وكان هو حديث الشباب في كل مجلس. كنت أنا قد التقيت بأخيه في عاصمة الضباب قبل سنتين من ذلك الموعد المنتظر، فقد جمعني به أكثر من مجلس، وهو شاب شخصيته تختلف عن شخصية علي الجفري كثيراً، كانت لقاءتنا محدودة نظراً لقصر المدة التي قضيتها في لندن تلك الأيام لكني أشهد له بالخلق الرفيع والأدب العالي، والتواضع الجم.

جاء موعد حضور علي الجفري إلى الدمام وكان الموعد كالعادة يوم الإربعاء. أخذنا في التجهز للذهاب إلى المولد، وأثناء ذلك فوجئنا بخبر يقول أن الجفري متواجد في الجامعة. ذهب صاحبي ليستقصي الخبر، ثم عاد. قلت له: ها.. أحقاً حضر إلى هنا.
قال: نعم.
قلت: أين هو الآن.
قال: لا يمكننا رؤيته إلا في الدمام، لأنه على موعد بلقاء بعض أساتذة الجامعة في جلسة خاصة سرية وسريعة، ثم يلحق بنا إلى الدمام.
قلت: لكني أريده على انفراد.
قال: صدقني، لا يمكن ذلك، وأعدك أن أرتب لك شيئاً من ذلك هناك في الدمام.
توضأت وأتممت تجهيزي وتوجهنا إلى مواقف السيارات حيث كان بانتظارنا أحد الطلبة ليقلنا بسيارته إلى هناك.
لقد أصابتني الربكة والقلق، فأنا مقدم على مقابلة شخصية ذات مكانة علمية مرموقة في نظري حينها، صاحب الطلعة البهية والابتسامة التي لا تفارق محياه. كان الصمت مخيماً على جو السيارة، فالموقف له رهبة ولهفة....

وصلنا إلى هناك وكانت السيارات قد غطت المكان من كثرة الحضور الذين توافدوا من كل حدب وصوب.. دخلنا إلى المجلس وإذا فيه شخصيات تبرز أهميتها من خلال تصدرها المجلس الرئيسي. كان الجميع ينتظر حضوره بشوق..
كان من بين الشخصيات وفد جاء من البحرين أي من صوفية البحرين وآخر من الأحساء، كلهم جاءوا يريدون مقابلة الجفري... إضافة إلى بعض الشخصيات التي تصدرت المجلس والتي لم أستطع أن أتعرف عليها إلا من خلال صاحبي الذي أشار على أحدهم بأنه لا يريد أن يعرفه أحد!! لم أكن مهتماً كثيراً بما يحدث حولي... فقد سبقني ذهني دقائق معدودة هي لحظة لقاءي بالجفري.. كان يرسم لقاءً آخر مع الجفري على الرغم من كونه لم يحضر بعد.. كنت أجلس في المجلس الرئيسي على الأرض وسط الجالسين وبين المنشدين وأصحاب الدفوف.

أصبح للمكان جلبة، فعرفنا أن الجفري حضر.. فدخل وسلم على الحاضرين وتوجه للسلام على الوفدين وكبار الشخصيات من الجالسين في صدر المجلس. لقد كانت نبضات قلبي تتسارع بشكل ما عهدته أبداً قبل تلك اللحظة. ها أنا ذا أقابل الرجل الذي حلمت بمقابلته طوال الثلاثة أشهر الماضية، هو الآن أمامي مباشرة... لقد كان للمكان رهبة في نفسي، بسبب أني كنت أنتظر هذا اللقاء بفارغ الصبر، بينما لم يكن كذلك صاحبي فهو قد اعتاد على رؤيته مراراً وتكراراً، بل ومن هم أعلى شأناً وأرفع درجةً وعلماً منه في عالم التصوف. كان صاحبي مرتاح أشد الارتياح حين رآني قد أُسرت بمقابلة الجفري وكيف تبدل حالي ولم أنفرد به بعد...

بدأ الإنشاد المصاحب بالدفوف وكنت هذه المرة بين المنشدين أُنشد وأشدو على غير عادتي في تلك المناسبات، وعندما جاءت الحضرة وقفت وأنا انظر لصاحبي غير راضٍ ولا مقتنع بهذا الذي يحصل، وفاجأني قيام الجفري ثم تمايله طرباً بتلك الأناشيد. بعد إلقاء القصائد المعتادة، جاء وقت الكلمة التي سيلقيها الجفري على مسامع الحضور والجالسين. تم تجهيز مكبرات الصوت التي وُصلت بأرجاء المنزل كله تقريباً وذلك ليتمكن الحاضرين في المجالس المجاورة والنساء اللواتي كن في القسم الآخر من سماع النشيد والكلمة. سبق كلمة الجفري بعض الكلمات المختصرة لبعض الحاضرين المتصدرين للمجلس ومن ثم أُعطي اللاقط للجفري ليبدأ حديثه..

كانت الأنظار والأفئدة منصته لما سيقوله الرجل، كان جل الحاضرين من الشباب الذين أتى أكثرهم من الجامعة ليستمعوا إليه على الهواء مباشرة، وهو بارع في استجذاب انتباه الشباب، قادر على أسر أذهانهم، وسلب أفئدتهم.. بدأ الجفري حديثه بالثناء على الكلمات التي أُلقيت قبله مرحباً بمن حضر من خارج المنطقة، ثم لما لا حظ أن الأغلب على الحضور هم الشباب، ألقى كلمة حارة حارة، موجعة للقلوب، مذكرة، مزلزلة، كانت عن عظمة الله. ثم بعد أن ألهب الحضور بعظمة الله بدأ يتحدث عن حال الإنسان حال فعله للمعصية والله يراه ويسمعه، والملائكة تكتب وتسجل... باختصار كانت عن التقوى لكنها كانت غاية في التأثير. أصبح للمجلس صوتٌ ودوي من البكاء. انتهى من كلمته وبدأ الحضور يتوافدون للسلام عليه في صف طويل. جاء إلي صاحبي وقال: ألا تريد السلام على صاحبك.
قلت: حتى يخف هذا القطار الطويل..
انتظرت إلى أن أوشك الطابور أن ينتهي ثم وقفت معهم، لقد كان الجو مهيباً بالنسبة لي. جاء دوري، فسلمت عليه وعرفت له بنفسي، فشد علي مرحباً بي بحرارة، فعرفت أنه يعلم أني من الأسر الهاشمية.
قلت له: لقد قابلت أخوك في لندن وجلسنا سوياً أكثر من مرة، وقد حدثني كثيراً عنك وها أنا ذا أراك اليوم. ثم عرضتُ عليه بعد ذلك بعض الرؤى التي رأيتها في منامي، ولم يأتي بتفسيرها كما فسرها لي ابن الرومي. وكنت قد رأيت بداية استقامتي بعض الرؤى المتتابعة فعرضتها على ابن الرومي فما أخطأ في شيء مما قاله لي في تفسيرها. أما الجفري فإني لم أعرض عليه ما رأيت إلا بإصرار من صاحبي الذي كان يريد أن يثبت لي أن ابن الرومي وهابي دجال.

كانت أنظار الشباب الذين خلفي لا تفارق ما يدور بيني وبينه، فما إن انتهيت حتى انهالت عليّ الأسئلة ماذا قلت للحبيب أي للجفري؟ لماذا شد على يديك وهو يصافحك؟ ما ذا كان يقول لك؟
قلت: لا شيء، وذهبت أنا وصاحبي عائدين للجامعة.
سألني صاحبي ونحن عند باب غرفتي في الجامعة: هل سألته عن مناماتك.

يتبع..............
__________________
اللهم يا من رد يوسف على يعقوب.. وكشف الضر عن أيوب.. وأجاب دعاء يونس ابن متى.. اردد علينا اخواننا في كوبا..