والقول الثاني في هذا ، وهو قول الإمام أحمد ووافقه مالك في بعض المسائل
أن إيصال الضرر للغير ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يكون معتادا، والمصلحة فيه ظاهرة
والثاني: ألا يكون معتادا، والمصلحة فيه غير ظاهرة، فإن كان معتادا، والمصلحة فيه ظاهرة، فيجوز أن يفعله؛ لأن الناس لا يمكن أن يفعلوا فيما بينهم أشياء إلا وثم أذى يصيب الآخر منه، يبني لا بد أنه يشب نارا، ويعمل أشياء، يصل لو رائحة كريهة إليك، لكن هذا شيء معتاد لا بد منه، يريد أن يعمر -مثلا- بجانب جاره لا بد من الصباح، وهم يضربون حتى يتأذى الجار، لا يستطيع الجار أن يلومه، مع أنه لا ينام صباحا من جراء العمل، فهذا عمل معتاد ومثل هذا، ولو وصل الضرر عند الإمام أحمد، فإن مثل هذا غير منفي؛ لأنه لا تصلح أمور الناس إلا بهذا، وأما إذا كان إيصال الضرر غير معتاد في أمر لا مصلحة فيه، وغير معتاد، فإنه يجب إزالته، في أشياء كثيرة، من الأمثلة:
يعني: مثل المثال الذي ذكرنا سالفا مثل أبواب وشبابيك على الجار، عند الإمام أحمد هذا مما جرت العادة به؛ لأن الغرف تحتاج إلى تهوية إلى آخره، فلا يمنع منه، وهو المعمول به عندنا في ضوابط معلومة، وأما إذا عمل عملا يوصل إليه الضرر بشيء غير معتاد، فإنه لا يقر عليه، مثل أن يحفر قليبا بجنب قليب صاحبه فسحبت الماء عليه، والماء لمن سبق؛ فلهذا يؤمر المتأخر بأن يزيل هذا الضرر؛ لأنه غير معتاد، ولا مصلحة فيه ظاهرة له؛ لأن مصلحة الأول متقدمة عليه.
مثال آخر: لو أراد أن يحفر في بيته، أو يبني، يذهب يأتي بديناميت -مثلا- ولا بأشياء، يتضرر معها بيت المجاور بتهدم بعضه، أو بخلل في أركانه، أو في أسسه، أو أشبه ذلك، فهذا مما لا يكون معتادا، فيمنع منه، وهذا القول قول الإمام أحمد هو التحقيق، وهو الصواب؛ لأن العمل جرى عليه؛ ولأن مصلحة الناس لا تتم إلا بهذا، فإذا سيحصل لنا من هذا -والبحث في هذا الحديث يطول؛ لأنه قاعدة عظيمة، يدخل فيها كثير من أبواب المعاملات والأمور الاجتماعية: النكاح والوصية والطلاق وإلى آخره- تحصل لنا من هذا أن الضرر والضرار مختلفان وأن هذا له معنى، وهذا له معنى، وأنه منتف الضرر والضرار شرعا، يعني: في التشريع.
وكذلك يجب على العباد أن لا يضر بعضهم بعضا، وأن الضرر منه ما هو للعبد فيه مصلحة، فهذا لا يجوز باتفاق، والضرار الذي لا مصلحة للعبد فيه، ولم تجر العادة فهذا أيضا منفي، وأما ما يحصل به نوع أذى مع بقاء المصلحة، وجريان العادة في ذلك، فإنه لا ينفى شرعا، ولا يجب به إزالة الضرار، هذا ملخص ما في هذا الحديث من مباحث.
وهو يستدعي أطول من هذا بكثير من جهة التقسيمات والأمثلة؛ لأنه داخل -أيضا- ضمن قاعدة فقيهة، وهي: الضرر يزال، ولها تفريعات كثيرة، ربما مر معكم بعضها.
إنتهى شرح الحديث الثاني الثلاثون
تحياتي
