عرض مشاركة مفردة
  #20  
قديم 22-04-2006, 02:56 PM
لظاهر بيبرس لظاهر بيبرس غير متصل
Banned
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
المشاركات: 285
إفتراضي

فأرسله مكبلاً باسلاسل إلى ساحة السوق، وكان البطل يسير بين المواطنين وهو يدرك أنه يتجه للقاء الموت، لكنه كان يبتسم بكل شجاعة وإيمان، فالتفت إلى الخدم الذين ضايقوه وقال (لا تفرحوا يا خدم المجرمين فان لي جماعة سيأخذون بثأري)!.. وكان يعني "بجماعته" جموع الشعب التي كانت تنظر له باعجاب بينما هو مقيد بالحديد!، وكنت آنذاك صغير السن، أقف بين ذلك الجمع الكبير الذي شاهد إطلاق الرصاص في رأس هذا البطل، لكننا ماذا نملك غير ترديد اللعنات على آل سعود بأصوات عالية مع كل رصاصة تنطلق صوب رأسه وصدره الشجاع، وراح البطل غريّب العفري شهيد شعبه، هذا الشعب ـ الشهيد ـ الذي قدم الآلاف من أمثال غريب العفري، ممن خلقوا في نفوسنا ثورة منذ سني الرّضاع الأولى، لن تنطفئ نارها حتى تحرق الظالمين.
والشعب في حائل لا يكن لعهد الحريم أي احترام، فعندما توفي الطاغية عبد العزيز، واستورث ابنه سعود الشعب والأرض والعرش من بعده، وأخذ يدور على كل المناطق مخادعاً الشعب بطلب "البيعة" منه، لم يبايعه الشعب، وإنما بايعه نوع معين من المتزلفين..

ولم أنس تبرم الشعب في حائل عام 1373 ـ 1954 بمثل هذه "البيعة" التي جاء سعود يطلبها منهم، وكنت وقتهاً منفياً من الظهران إلى حائل، بعد أن قام العمال باضرابهم الشهير بتاريخ 17 اكتوبر عام 1953، مطالبين بإخراجنا من سجن العبيد، حيث لم يرجع العمال إلى العمل، ولم يتوقفوا على الاضراب إلاّ بعد الإفراج عنا.. وبعد ن أفرج عنا، أخذت علينا تعهدات بأمر الملك سعود بواسطة ـ عبد الله بن عيسى وكيل الأمن العام الذي أخذ هذا التعهّد علي ـ ونصه: (أنا الموقع فلان.. أتعهد للدولة بأنني لن أخرج من خلف سور حائل، وإن خرجت من منفاي هذا فإنما أهدر دمي وأحل للحكومة قتلي)!

..فأمرني وكيل الأمن العالم في الظهران بتوقيع هذا التعهد، والحديد ما زال بيديّ، والقيد برجلي، كما وقعه بقية الأخوة؛ فوقعته وضحكت وقلت: ان هذا التوقيع أو عدمه سوف لن يمنع العصابة السعودية من قتلي إذا أرادت، وإنما هو احتياط شكلي اتخذ للإفراج عنا والتخلص منا بعد موقف العمال الأبطال، والذي أضحكني هو ما ذكر بهذا التعهد السعودي: "سور" حائل، فرجال هذه العصابة لم يعرفوا أن هذا السور قد هدم منذ أول يوم للإحتلال السعودي المشؤوم.. وقد أخبرت وكيل الأمن العام عبد الله بن عيسى بذلك وقلت له: (أن هذه الدولة التي أخذت علينا تعهد الموت جاهلة في بلادنا وخبرتها عتيقة!)..

ووصلت إلى حائل مقيد اليدين بتاريخ 10 نوفمبر عام 1953، وفي الطريق بلغنا نبأ وفاة الطاغية عبد العزيز من الإذاعة في ضحى 9 نوفمبر 1953. ولم أخف سروري بهذا النبأ، ولم أترحّم على الطاغية طبعاً، وإنّما جهرت باللعنات عليه أمام جمع من شعبنا احتشد في مدينة بريدة حول السيارة التي نقلتنا إلى حائل..

وبلغنا أن الملك سعود سيقدم إلى حائل لاخذ "البيعة" له بعد والده، ورأى بعض الأخوة أن أعدّ كلمة البلاد ـ أي كلمة الشعب ـ لإلقائها أمام الملك، وأعددت الكلمة. وعلم حاكم حائل، جزار الشعب عبد العزيز بن مساعد الجلوي بذلك، فاستدعاني لمقابلته، وقابتله في قصره وطلب مني أن أعراض الكلمة عليه، فعرضت كلمة موجزة لم يفهم منها شيئاً، لأنه لا يفهم (أي شيء) غير القتل والارهاب وتجميع صفائح الذهب وممارسة النكاح، وامتلاك الجواري والعبدات فقال لي: (يجب أن تحذف منها كلمات الفقر والجهل والظلم والمرض) وأردف يقول: (ولا تلقها باسم الشعب والعمال وأهالي حائل، وإنما باسم الأمير ابن مساعد والإمارة، ويكون إلقاؤها في قصر الإمارة عندما يزورنا الملك في القصر، فهذه كلمة زينة!).

قلت له: لا ـ طال عمرك بعض أبناء الشعب طلبوا مني إلقاء الكلمة بإسم الشعب، وسوف ألقيها باسمه، أما كلمة الإمارة فهناك من يلقيها غيري.. ولما رآى الطاغية ابن مساعد اصراري، رد علي وهو يهز رأسه غير معجب بمعصيتي له بقوله: (بهواك بكيفك). قلت: هذا هو كيفي، وانسحبت منه.

وفي يوم 10 / 12 / 1953 وصل ركب الملك سعود إلى حائل، وشيد له السرادق في جنوب حائل في مكان اسمه "نقرة قفار"، فألقيت كلمة أمامه لم ينتبه لما جاء فيها نظراً لكثرة الضوضاء وازدحام الخدم حوله، وعدم وجود مكبر للصوت، ونظراً لقلقه وخوفه، ولأنه "متعب" كما يقول.. وتحرك ركبه حيث ضربت الخيام لخدمه وأتباعه في مكان اسمه "الوسيطاء" غربي حائل، وأصدر أوامره باحضار عدد من الحريم إلى قصره المتنقل معه أينما حل وارتحل، والمسمى باسم "الصالون) وأحياناً باسم (الحمام).. وتزوج تلك اليلة بثلاث من النساء على الطريقة السعودية المعروفة.

وفي يوم 11 / 12 / 1953 وجهت له دعوة من قبل مدرسة حائل، وقمت باعداد تمثيلية بعنوان: الفقر والجهل والمرض، لتمثيلها أمامه، غير أن الأوامر أتت قبيل وصوله بالغاء هذه التمثيلية.. وفي الساعة الواحدة ظهراً وصل الملك إلى المدرسة المذكورة وحضر جمع غفير من أبناء حائل، بالإضافة إلى من حضر معه من أخوته وجزاريه وخدمه، ومنهم عبد العزيز بن مساعد.

فألقى الزملاء بعض كلمات الترحيب أمامه، وما أن جاء دوري في الكلام، حتى أمر خدمه بإيقاف ما تبقى، لأن "جلالته" كما يقولون "متعب" ويريد إنهاء هذا الحفل، وحاولت أن ألقيها ولكنني منعت من قبل العقيد المرحوم محمد الذيب ياوره الخاص، فدفعت الذيب بيدي وتقدمت للملك وقلت: أن لديّ "كلة يا طويل العمر"، وقد منعني حرسك من القائها بحجة أنك متعب، وشعبنا في حائل يعلم أنك لم تأت هنا للسياحة وشم الهواء، وإنما جئت لأخذ البيعة، وفي هذه الكلمة التي منعت من القائها أشياء مهمة عن البيعة يجب سماعها، لأنك كنت متعب يوم المجيء ولم تسمعها.. وكأن الملك قد أعطى الأوامر لقيامه، وتحرك بالفعل من مقعده لترك المكان، ولكنه عاد للقعود ثانية وقال (تفضل تفضل ألقها) وهذا نصها:

كلمة الشعب

(باسم الله الحق، باسم العمال المعذبين، باسم الفلاحين الذين أصبحوا فريسة للمرابين، باسم الجنود الظافرين، باسم البدو المشردين، باسم الشعب العظيم، الشعب الذي حرم من نور العلم طويلاً يا طويل العمر!!:

يا سعود بن عبد العزيز.. دعني أناديك باسمك المجرد من الجلال والجلالة (فزخرف القول غروراً)، والذي لا يجلّه شعبه لا تجله الألقاب الزائفة، بل ولا يجله الله أبداً!!.. أن رضى الشعب هو رضى الله، ولن يرضى الله سبحانه على من لا يرضى عنه شعبه، لذا أقول لك.. يا سعود؟.. هل تجشّمت مصاعب الطرقات الخربة الوعرة ذاهباً إلى الحجاز وعسير وتهامة جنوباً، عائداً إلى الجوف وحائل في أقصى الشمال، متجهاً إلى القصيم ونجد، والاحساء والقطيف والجبيل في سواحل الخليج العربي شرقاً. أقول: هل تجشّمت هذه المصاعب والطرقات الوعرة الخربة "يا وريث الملك من أبيه" بقص الدعاية لنفسك، أم الترفيه عن نفسك؟، إذ ليس في مئات المدن والقرى والصحارى التي مررت بها إلا الفقراء الذين رأيتهم ـ يمدون أيديهم المقطوعة والموشكة على القطع ـ يمدونها إليك ضارعين من الفقر والجوع والمرض والجهل اللعين..

وكان بامكانك أن تقطع هذه المسافات بالطائرات، لكنك قطعتها بالسيارات.. ولهذا نحاول اقناع أنفسنا: بأنك جئت حسب الظن بقصد الإطلاع على ما يلاقيه شعبنا في كل أنحاء بلادنا المنكوبة المرزوءة بالظلم والعراء والمرض والشقاء والفقر. والبطالة وخراب الديار، وعرفت أنت بنفسك بعد أن تكسر العديد من سياراتك بهذه الرحلة، أنه لا يوجد طريق واحد معبد في البلاد، كما تعرف أنت أنه لا يوجد علاج ولا معالج ولا ماء نظيف صحي ولا دواء ولا عمل ولا مساكن تليق بالإنسان وكرامة الإنسان.

وهذا ما جعلك تسكن في الخيام في كل مدينة تحل بها بما فيها حائل، لعدم وجود ما يصلح لسكناك كملك من مساكن شعبنا الحقيرة.. وكنت قد أعددت مع أخوة لي من الطلاب تمثيلية بعنوان: "فقر وظلم وجهل ومرض"، لأعرض أمامك بطرق تمثيلية هذه المهازل والجرائم التي يلاقيها كل شعبنا، حضره وباديته الكريمة من جراء الأدواء الأربعة اللعينة.. الجهل والمرض والفقر والظلم، والحكم الباطل الذي خلق الأربعة وغيرها، وفي النهاية أعرض كيف يكون القضاء على هذه الأدواء وأسبابها، وأبيّن أخيراً أنه لا طريقة للقضاء على هذه الأمراض اللعينة ومسببيها إلا السيف، أي الثورة على هذه الأدواء.