غضب الملك وافتى باعدامي
كان هذا هو النص الحرفي لكلمة الشعب التي ألقيتها أمام الملك سعود في حفل مدرسة حائل، ولا داعي لإعادة نشر الخطاب الأول الذي ألقيته قبل هذا بيوم واحد، وهو يوم وصول الملك سعود لحائل، نظراً لما بين هذا وذلك من تشابه، وهذا الخطاب كان سبب تعرفي بالضابط الحر محمد الذيب رئيس حرس الملك الخاص، الذي اغتاله ـ آل فهد ـ عام 1959 في ألمانيا الغربية بحقنة لم تكن الأولى من نوعها، وإنما سبقتها محاولات أخرى كان قد أطلعني الشهيد الذيب عليها، وقد التقينا في الظهران مراراً، وفي الرياض، ومنها ثلاث مرات في بيت الشهيد الحر عبد الرحمن الشمراني، وكان الذيب هو الذي ابلغني بالأمر الملكي الصادر بقتلي ليلة 11 / 6 / 1956، واختفيت من غرفتي بينما واصلت الاتصالات بالعمال حتى اضطررت لمغادرة البلاد يوم 18 / 6 / 1956، فاعود الآن إلى يوم 11 / 12 / 1953 وموقف الملك سعود من تلك الكلمة سالفة الذكر.
لم يتركني الملك أتممها.. بل أخذ يصرخ بقوله (كف كفى، أنتم مجرمين أنتم مجرمين أنتم مفسدين)، وتلا الآية القرآنية كإيذان بقتلي: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلال أو ينفوا من الأرض}، ولكنني لم ألق له بالاً، فقد استمريت في قراءة كلمتي رافعاً صوتي إلى أعلى موجاته، متجاهلاً قول الملك رغم سماعي له جيداً، لحرصي على إكمال كلمتي إلى النهاية، لأنني لو توقفت فسأعطي الملك فرصة لمغادرة المكان ومقاطعته للكلمة، وقد بلغت بي الأحاسيس وقتها أن الملك سيقتلني فأردت أن أبيّن للناس: على أي شيء يقتل مثلي، وبذلك اكشف لبعض المخدوعين عن جنون ملوك آل سعود وغدرهم، وكيف أن أحدهم حين يستولي على الملك اغتصاباً، ويعتبره إرثاً لأخوته، ثم يأتي الملك المغتصب الجديد ليضحك على السذج طالباً منهم البيعة! وأي بيعه هذه؟.. وقد قلتها له، قلت: (لا بيعة ولا شراء.. بل ثقة الشعب يمنحها لمن يخدم الشعب لا لمن يخدمه الشعب)!..
وبلغ بي شعور اللامبالاة حينما اشرأبت أعناق الحاضرين تتوقع ما يحدث لي من الملك، فأعطاني بعضهم اشارات بالسكوت!، فتماديت ليعرف الناس ما فعلت وما قلت، ولكي لا أعطي فرصة للملك أن يزيّف ما قلته بالدجل السعودي المعروف، حينما ألقيت الخطاب أمام الملك في حضور الجموع المجتمعة في مدرسة حائل، وكنت قد رفضت مشورة واحد من أقرب حراس الملك المقربين، عندما عرف الحارس بكلمتي قبل أن ألقيها، نصحني بعدم القاء الكلمة في مكان عام وقال: "أنه سيهيء لي فرصة الاجتماع بالملك في مخيمه ـ بالوسيطا ـ، فألقي الكلمة أمام الملك بحيث لا يحضر إلا الوسيط، وعدد قليل من الحرس، وطلب مني أن أخفف اللهجة واستبدل الشدة بتأييدنا للملك وطلب عفوه، وإعادتنا إلى العمل في الظهران والسماح لنا بمغادرة المنفى، وأن لا أعرض في كلمتي مثل هذه المطالب العامة".
ولكني قلت للأخ الحارس المقرب (صالح علي السالم): لا يا عزيزي.. انه سيأمر بقتلي لو تكلمت معه في خلوته، ويلفق أي تهمة يراها ضدي ولهذا سأقولها في أي ميدان أجده أوسع جمهرة من غيره.. وبالفعل وجدت الفرصة سانحة في مدرسة حائل، وربما لم يستطع قتلي لأن الناس قد عرفوا ما أريد.. أو لانه رغم ظلمه وطيشه كان أعقل وأعدل أخوته الذين تبعوه وما زالوا يتوارثون الحكم اغتصاباً من بعده، لكن الملك سعود لم يخف غيظه، بل قاطع خطابي بصراحة أمام الناس كما قلت، ولما لم أعره سمعاً ولا طاعة أمر "ياوره" العقيد محمد الذيب بقوله: (خذها.. خذ الورقة منه)، وكرر قوله لي أمام الناس: {أنتم مجرمين.. إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون ويسعون ويسعون} وعلق لسانه على "ويسعون"، فجاء إلى جانبه مبعوث من الجامع الأزهر كان يدرس في مدرسة حائل ولقنه بقية الآية وهو يبتسم..
أما المرحوم الذيب "ياور" الملك فقد تمكن من سحب الورقة من بين يديّ وسلمتها له، حفاظاً على عدم تمزقها بين يدي ويديه.. وعندما وقفت أمام وجه الملك وقلت له متسائلاً: (من هم الذين يحاربون الله ورسوله؟! ان الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فساداً، ويجب أن يقتلوا ويصلبوا وينفوا من الأرض إلى غير رجعة، ليسوا العمال الشرفاء، وإنما هم أولئك الذين نزلت بحقهم الأية الكريمة وأمثالهم ممن هم أفسد ممن حاربوا النبي محمد بن عبد الله سابقاً.. إنهم الأمريكان في الظهران، أعوان إسرائيل، وأعوان اليهود وأذنابهم في هذه البلاد.. والهيئة الملكية التي أرسلتموها لنا بحجة انصافنا من شركة أرامكو الإستعمارية، ولكنهم ارتشوا من ارامكوا وألقوا بنا في غياهب السجن مما دعا العمال للإضراب مطالبين بالإفراج عنا ومنع اعدامنا، ثم أفرج عنا لكننا نفينا بعيداً عن مناطق نفوذ الأمريكان. والذين يقتلون الفضيلة هم الواجب قتلهم والذين يأكلون الحق ويزيفون الدين هم المفروض تقطيع أيديهم وأرجلهم. إنني أقول الحق وبعد هذا لا يهمني أن تقتلني يا سعود)!.
ولم يتركني حتى أتوقف عن كلاي، بل سحب عباءته التي سقطت حينما وقف غاضباً، وأمسك بيد حاكم حائل الجزار ـ عبد العزيز بن مساعد بن جلوي آل سعود ـ ووقفاً معاً وسعود يردد: (هذا الحفل زين لكن خرّبه ابن سعيد)!.. ومشيت خلفه، ولكن أخاه الأمير محمد بن عبد العزيز أمسك بيدي، وعرفني بنفسه وعلى ابن عمه فيصل بن سعد، وقال: (أنصحك أن لا تتبع الملك، أنني أخاف أن يقتلك لأنها أول مرة يقف فيها مواطن أمام ملك بهذه المطالب، ويتكلم بهذا الكلام أمام الناس. وأنا معكم وأشهد أنكم على حق، وأن قضيتكم راحت وأضاعها الدولار، وثق أنني سأقف معكم، ولكن أترك الملك يروح، وتعالى لي الليلة بعد المغرب في القصر الذي أسكن فيه. تعرفه؟ أنا أسكن في قصر نوره).. قلت له سآتي إليك الليلة. قلتها وأنا أعلم أن كل ما يقوله الأمير محمد لا يخرج عن كونه دجلاً من دجل الأمراء، ولم يقصد إلا سكوتي واسكاتي.
أما الذين حضروا ذلك الحفل فقليل منهم اتهمني بالجنون (لأنه لا يتكلم مثل هذا الكلام إلا فاقد العقل!) كما قالوا، فقلت لهم: كم نحن بحاجة إلى المجانين ليرفعوا عن "عقلاء" الذلة عار المذلة. وكم تمنيت لو أصيب كل شعبنا بالجنون الثوري، الذي سبق وان اتهم به النبي محمد وصحابته وكل الأنبياء، أما قسم منهم فقال "أنني جريء" وقسم أيدني بلا تحفظ. أما أنا فلم أقدم على ذلك ـ حسب شعوري ـ ذلك الوقت إلاّ بدافع من حبي للوطن، وألمي الشديد أن أحيا في بلد يسوده أقذر حكم عرفة التاريخ الوسيط والحديث.. ولا يهمني بعد ذلك من يتهمني بالجنون أو الجرأة أو يؤيدني، فكلهم من "عقلاء" الملذات ما داموا لا يعملون لدحر الطغاة، وقد كنت أبحث عن الموت باسمى طرقه..
أما الأمير محمد بن عبد العزيز فلم يخف "تأييده" لي لدى كل من قابله من أهالي حائل ـ ربما لادراكه أن الأكثرية تؤيد ما قلته وهي ضد آل سعود قاطبة ورحت تلك الليلة إلى الأمير محمد فوجدته يجلس في سطح القصر، ولديه عدد من الأمراء قدمني لهم "بشيء من الثناء" وطلب مني (أن أكتب تقريراً له في كل ما نريد!)، وقدم لي الورق والقلم فكتبت بخط يدي كل ما يريده العمال والفلاحون والجيش والشعب كله واحتفظت بصورة منه.. وقبل أن أسلمه تلك المطالب الوطنية قرأتها عليه ليستوعبها، فقال لي الأمير محمد: (إني مسافر اليوم مع الملك وسأقدمها للملك سعود، وسأقف إلى جانب هذه المطالب!) وأضاف: (ولكنني أطلب منك أن تتوجه إلى الرياض، لتكون قريباً منا وتسكن في ضيافتي عندي في قصري، وسأقوم بكل ما تريدون)!.
ولكن كل هذه الأقوال ذهبت مع غيرها من أقوال الامراء الكاذبة.. وكانت هناك دعاية وهمية يرددها السذج آنذاك عن "طيبة وديمقراطية" هؤلاء الأمراء، أمثال الأمير محمد(2)، وسلطان وفيصل وأولاده، وطلال ومشتقاته، لأن هؤلاء الامراء التجار الكبار إعتبروا الكلام لا يصرّفه أمثالهم الا على الشعب، المستهلك الوحيد لبضاعتهم الكاسدة، بإظهار عطفهم الزائف على الوطن والوطنيين حتى أن الأمير عبد الله الفيصل عندما ذهبت إليه شاكياً الوضع الفاسد بصفته وزيراً للداخلية، استنكر معي ما يلاقيه العمال من ظلم واضطهاد من جراء الحكم الفاسد وشركاته وطلب منا أن نحني رؤوسنا كما قال "للعاصفة حتى تمر ويأتي والده فيصل" وأظهر ميولاً نحونا، بل طلب منا اغتيال الملك سعود! وسلم لي تقريراً جاء له به (طلعت وفاء) المدير السابق للأمن العام (الذي اغتاله "الفهد" فيما بعد ، وقيل أنه انتحر في لبنان، وكان يعارضهم لاحالتهم إياه على المعاش) قدم هذا التقرير وأنا عنده، وكان قد كتبه "جون فيلبي" عن تاريخ هذه العائلة السعودية، وأوضح جون فيلبي دوره الكامل في خلق هذه العائلة وتكوينها وجملها وفصالها، وكيف أنشأها الانكليز.
وقال فيلبي: (أن الفضل في ذلك يرجع الى فيلبي أولاً، والسير برسي كوكس ثانياً)، ولقد سلم لي عبد الله الفيصل وزير الداخلية السابق هذا التقرير ربما دون أن يقرأه قائلاً: (خذ هذا واقرأه فقد ينفعكم، وقل لي رأيك فيما يكتب فينا وأعده اليّ).. وبالفعل فان هذا التقرير قد "نفعنا"، ولكني لم أعده اليه ولم "اقل له رأيي فيه"، وإنما نشرت معظم فصوله.. ولما قرأته قلت لنفسي: سوف لن أعيد هذا التقرير مرة أخرى إلى من لا يعرف قيمة هذا التقرير، اللهم إلا إذا طلبه مني، ولكنه لم يطلبه منّي فقد نسيه الأمير المحروم "من كثرة الحرمان"!.
وكان جون فيلبي قد أعلن غضبته على سعود وعائلته "لما عاملوه به من جفاء كفراناً بفضل خالقهم"، عندما وجدوا أن النفيعة الأمريكية أحسن مذاقاً وأجدى نفعاً من نفيعة الإنكليز. وكان جون فيلبي يشعر بمرارة لا بعاده من قبل سعود تنفيذاً لرغبة الأمريكان، وقد وسط بينه وبين سعود حسين العويني العميل السعودي المعروف الذي ألحقه جون فيلبي "في عضوية مجلس الربع السعودي" التابع لعبد العزيز ـ ورشحه السعوديون لرئاسة وزراء لبنان مراراً ـ… وقد صب جون فيلبي جام غضبه على سعود وأفراط عائلته الذين تنكروا كما يقول فيلبي (لأصدق صديق لوالدهم، تنكروا لمن حكم مكة من أول يوم دخلناها ولمدة 37 عاماً حكماً مباشراً حتى روضها، وحكم الجزيرة العربية 40 عاماً حكماً غير مباشر، عندما ـ كان كل الحكام يسيرون بأمري، ويستعطفوا مني كلمة صالحة في حقهم أرسلها في تقرير إلى لندن لطلب العون والمال والسلاح والحماية، وقد صليت بالناس إماماً في الحرم الملكي، وصليت بوالدكم إماماً، عندما تتهمونني الآن فقط بأنني غير مسلم. ان والدكم كان يأتمر بأوامري ولا يرى بعد رأيي أي رأي. أنني مواطن عربي الآن، ولو كان والدكم حياً لما سمح لكم بهذا التطاول علي الذي هو تطاول على والدكم في الحقيقة، لو كان أخي عبد العزيز بن سعود في الوجود لما رضي بابعاد والدكم عبد الله فيلبي، لو كان والدكم عبد العزيز حياً لقال لكم من أنتم يا أبنائي الذين تتجرأون على منشئ دولتنا الحاج عبد الله فيلبي، ومربيكم أنتم بالذات، وقد قالها أخي عبد العزيز بالفعل عندما انتقده عدد منّ مشايخ القبائل والدين "لتقريبه لعبد الله فيلبي والأخذ برأيه لأنه انكليزي".
|