صور و أنماط
صور و أنماط 2
....لكن هل كنت تدري أن تلك الوجوه ستغيب يوما، أو تفقد ألقها، وتنزوي في ركن مُهمل، فيغمرها النسيان!؟ وأن هذا ربما تزامن مع ظهور قطب كبير في هذه الدنيا، راحت أفكاره تراود الكثيرين على حساب المكانة التي كان الغرب يتربع عليها بشكل تقليدي، باعتباره مركز الحضارة العالمية في الأزمنة الحديثة، لا سيما حين طالت تلك الأفكار مسؤولين في مفاصل هامة من الدولة. ليس على مستوى البلاد فحسب، بل على امتداد الوطن الذي كان ينضوي على ما يسمى بالعالم الثالث. فـتـفـتـقـد المدينة تلك السلال المعدنية التي كانت تتشبث بخاصرة أعمدة الكهرباء، كي يلقي الناس بأوساخهم فيها، وتختفي المربعات الترابية الصغيرة المخصصة لزراعة الأشجار من أرصفتها !؟ ولكن هذا لا يعني أن ظهور ذلك القطب هو السبب الوحيد في غياب تلك المربعات . فلا شك في أن يأس البلدية من صلاح حال الناس، وانعدام تفهمهم لضرورة الحفاظ على نظافة المدينة قد لعب دوره في غياب تلك السلال والمربعات، إذْ كم من سلة غابت إثر ليلة ظلماء، وكم شجرة زرعت في الصباح، ثم مر بها أحد مربي الماشية في غدوه من السوق أو رواحه، فاقتلعها ليهش بها على غنمه، وحين أحاطت البلدية الشجرة الجديدة ـ التي زرعتها بدلاً عن تلك التي اقتلعت ـ بمشبك حديدي يحفظها، غاب المشبك نفسه مع الشجرة . فما عادت البلدية تسعى إلى تقليد البلديات في الغرب، ولم تنجح في إرساء القواعد لمدينة نظيفة مثل المدن في الشرق الاشتراكي، وهكذا تحولت المدينة إلى مكان مكتظ وقذر، يسفه الغبار صيفا، ويغمره الطين شتاء . وقد ترغب في أن تضم سببا آخر إلى خانة الأسباب السابقة. ذلك أن قوة الدولة وحضورها في الحياة اليومية راح يزداد يوما بعد يوم . كما ازدادت هيمنة شرطتها ومخبريها وموظفيها وأجهزتها ومؤسساتها المنظورة وغير المنظورة على كل مرفق، بحيث راح صوتها يعلو على كل صوت . كانت القبيلة قد تراجعت كثيرا، وما عاد رجال من السادة مطلقين في الريف أو المدينة. وتحولت البلديات بالتدريج إلى مجموعة من الموظفين يهمها ـ أولا ـ ما تقبضه في مطلع كل شهر، كما يهمها أن تظل الوظيفة في حدود المفاهيم السائدة في البلدان المتخلفة، ذلك المفهوم القائم ـ أساسا ـ على مبدأ الامتيازات، وألا تتحول إلى دورها الأساسي كقطاع خدمي ، وبالتالي فإنها لم تكن ترى حرجا في تراجع الخدمات القائمة.
وهكذا أفل عن سماء المدينة والقرية الكثير من الشخصيات التي وشمت أزقتها بعلامات مميزة، فيغيب "الخو" أياما ثم يكتشف الأهالي بأنه مات في كوخه بصمت، وأن كلابه وجراءها لم تر غضاضة في نهش جثته عندما أمضها الجوع في الكوخ المغلق، ولم تجد شيئا تأكله . وتحصد المنية "الغولة" فيغيب قميصه المخطط ذو المربعات، وتختفي قبعته المتكسرة الأطراف، ويغيب الثرى جرمه الضخم المتناقض مع رأسه الصغير، وعينيه الحولاوين، يموت الرجل ذو اللسان اللاذع، فيرتاح مسافرو الريف من سخريته وقسوته. وتموت "البكوشة" في هدأة من الليل ، فلا يشعر بهـا أحـد ، وتنقلب العربـة السيـارة "بالكوربو" على الطريــق الجبلي"، فينهض مذهولاً، ويرى في تلك اللحظة الكاشفة السابقة على الموت منيته، فيصرخ محتجا، أو مدهوشاً ، الكوربو يموت ؟! لا..لا الكوربو لن يموت.....
كان شابا قويا، معتدا بنفسه، فلم يصدق بأنه سيموت هكذا ببساطة، لكنه مات، وشهدت المدينة واحدة من جنازاتها الحافلة، التي طافت بشوارعها وأزقتها على أنغام الموسيقى، فيما راحت الجموع تودع صاحبها المطل من لحده الذي أصروا على غطائه بإحدى رايات الطرق الصوفية و كللوه بالزهور. واختطفت الغربة ...البو...و خليل... فتاهت الخطا بالأول خارج حدود البلاد ، بل خارج حدود القارة كلّها. وألقت بالثاني على أعتاب حاضرة البلاد بحثا عن اللقمة ربما.... في حين انتهى " الصخرة" إلى أحضان جنون غريب أحاله إلى شخص خائف و مسكين، بعد أن كان يزرع الطرقات بجبروته وقسوته، واختفت الملامح وتفرقت الجماعات في دروب الحياة، فما عدت تصادف أحدا منهم . غاب من غاب، وغادر من غادر . في الوقت الذي كانت المدينة ـ فيه ـ سادرة في هواجسها بعد أفول الزمن الذي كانت الأحلام ـ فيه ـ تبدو كأنها في طريقها إلى التحقق.
|