21-05-2006, 08:15 AM
|
من كبار الكتّاب
|
|
تاريخ التّسجيل: Oct 2005
الإقامة: فرنسا
المشاركات: 6,264
|
|
وبطبيعة الحال، صمد الشعب الجزائري ضد العنف الاستعماري الفرنسي هذا، ومثلما صمد من ذي قبل فترات كانت أطول أمدا و أشد ويلا، مثلما صمد وانتصر، بعد سبع سنوات من حرب ضروس أريد بها استمرار الوجود الإستعماري، على الوجه الأسود للدولة الفرنسية ، وجهها الإستعماري . فما هي إلا عشر سنوات حتى عاد الشعب الجزائري، و جراحه الرهيبة لم تكد تندمل، لخوض المعركة من أجل حريته، معيدا مستذكرا وثبة مايو 1945 ومستخلصا الدروس منها.
فاعتبارا من أول نوفمبر 1954، بات حتما مقضيا على القوات القمعية للدولة المحتلة أن تحارب لا مجرد صدور عارية موشحة بالأعلام، وإنما مناضلين سياسيين ومقاتلين يحسنون فنون الحرب والقتال وضليعين في أساليب مناورة القوات الجرارة للجيش الفرنسي غير عابئين بدفع ضريبة باهظة حقا من الدم والدموع.
منذ زمن ليس بالبعيد ، كان الكثير في بلادنا، لا سيما من بين أعضاء جيش التحرير الوطني المظفر الذين ما يزالون على قيد الحياة، لا يريدون التعرض بالتملي المستفيض للطبيعة التي كان عليها الاستعمار في بلادنا. كنا نفضل إنتهاج الأسلوب المعتدل الذي اتبعه الرئيس هواري بومدين، الأسلوب المتمثل في طي صفحة الاستعمار دون تمزيقها. وكان ذلك لعدة أسباب.
أولها أننا خرجنا، من حيث إننا شعب وأمة، منتصرين من مجابهة ساحقة ماحقة، دامت مائة و اثنين وثلاثين سنة. ولعلنا كنا مقتنعين، ببعض السذاجة، أن فرنسا في جملتها، دولة و مجتمعا، ستدفن في جانب مغمور غائر من ذاكرتها الجماعية ذلكم الجانب الشائن والشنيع والمقيت من تاريخها، وأنها، مع مرور الزمن، ستندم وتكفر عن تجنيها الاستعماري على شعوب بكاملها عبر القارات. ولئن بقيت بعض الذاكرات الفرنسية تحن إلى ماضيها الاستعماري ، فإن ذلك لم يكن ليمثل أمرا ذا أهمية قصوى طالما أن الاتجاه المركزي على مستوى الدولة، والسلطة السياسية، ووسائل الإعلام، يلتزم ذلك الصمت الذي قد نحسبه بمثابة إحترام للأعداد التي لا تحصى ولا تعد من ضحايا تلكم الجريمة النكراء المقترفة في حق البشرية، وأعني بها جريمة الإستعمار .
ثم إننا لم نخلط قط لا بين الأمة الفرنسية، ولا بين الشعب الفرنسي، ولا حتى بين الدولة الفرنسية، والاستعمار الفرنسي، الذي كان، في ذات الوقت، وجهها المظلم وأداتها في استعباد بني البشر وامتهان كرامتهم، وإن كان ذلك على درجة متفاوتة من مستعمرة إلى أخرى، وفي أرض فرنسا نفسها. لقد كان كل من بيجو Bugeaud وشانفارنييهChangarnier وكافينياك Cavaignac وأمثالهم جلادين للشعب الجزائري ولشعب باريس Paris على حد سواء. وفوق كل هذا، لم ننس قط، نحن الجزائريين، وسنعمل على ألا ننسى أبدا، أن فرنسيات وفرنسيين هبوا، خلال محنتنا الطويلة، تحت طائلة النبذ والتهميش وفقد الحرية، وحتى تحت طائلة الموت، ووقفوا، باسم المثل الأعمق تجذرا في الأمة الفرنسية، ضد جرائم الاستعمار، ليس بوصفها آثارا جانبية فحسب، بل استنكروا الاستعمار ذاته كجريمة ضد الشعب الجزائري ، وضد قيم فرنسا، وجريمة ضد البشرية.
إن ما أقوله اليوم، و ما أعيده ، منذ أن تمت المصادقة على قانون 23 فيفري 2005 الفرنسي ليس أكثر غلوا ولا أشد استنكارا من محاكمة الاستعمار التي قام بها مثقفون فرنسيون من مثل بول فينيي دوكتون Octon'Paul Vigné d، وإيمي سيزارAimé Césaire ، وألبير ميميAlbert Memmi ، وفرنسيس جنسون Francis Jeanson ، وجون بول سارتر Jean Paul Sartre ، على سبيل المثال لا الحصر.
وأخيرا، وعلى الخصوص، لم نكن نريد، وما زلنا لا نريد، إلحاق الذنب بالأجيال الجديدة من الفرنسيات والفرنسيين الذين ليس له م، في نظرنا، أن يتحملوا مسؤولية ما صدر عن آبائهم. فمع هذه الأجيال الناشئة السائرة تدريجيا نحو الشفاء من النظرة الاستعمارية للعالم التي لوثت الذهنية والضمير الأخلاقي للعديد من آبائهم وأجدادهم وحطت من شرفهم، كنا وما زلنا نريد بناء مستقبل جزائري فرنسي قوامه ليس السلم فحسب، بل الصداقة وحرية الحركة بين ضفتي المتوسط والإبداع و شتى أشكال التعاون والتعاضد والتآزر .
إن أول جزائري اقترح على فرنسا، حال احتلال الجزائر العاصمة ، إنشاء دولة جزائرية صديقة لفرنسا ، كان حمدان خوجة. و بعد بضع سنوات، جدد الأمير عبد القادر، مرارا وتكرارا، عرض هذه الصداقة بين دولة جزائرية ودولة فرنسية يربطهما تعاون متعدد الأشكال. ويعلم الجميع أن الدولة الفرنسية فضلت العمد إلى إجتياح فتاك يأتي على الأخضر واليابس، اجتياح قضى على عدد جم من الساكنة الجزائرية، وصير في نهاية القرن التاسع عشر الجزائر المسلمة جزائر واهنة منهوكة ليس لها حول ولا قوة، جزائر أستبيحت هويتها، وسلبت ذات يدها ومسخت ثقافتها.
ومع ذلك، ومرة أخرى، بعد الحرب العالمية الأولى التي شارك فيها 300.000 مقاتل جزائري في صفوف الجيش الفرنسي، جدد حفيد الأمير عبد القادر ، الأمير خالد، عرض الصداقة على فرنسا مقابل الاعتراف بحق الشعب الجزائري في الكرامة والحرية. وكان جوابه النفي. ولجأت فرنسا الاستعمارية، بعد إعمال الإبادة في النسل إلى الإمعان، في إبادة الثقافة الجزائرية مسخا وفسخا وتهجينا وتشويها. ولما لم يكن عدد الراغبين من الفرنسيين والإسبان والإيطاليين والمالطيين في الاستيطان الزراعي بالجزائر كبيرا، فقد استوجب الأمر الكف عن التقتيل المنهجي للجزائريين لكي يشكلوا إحتياطيا من اليد العاملة الزهيدة الأجر التي كان ملاك كبريات المزارع الاستعمارية في حاجة إليها. وبدل التصفية الجسدية، فضل الاحتلال الفرنسي إفقار جل الشعب الجزائري وجعله فريسة سائغة للفاقة والجوع، وتجريده من ثقافته أي، باختصار، تجريده من الحضارة، وإيقافه عن مواصلة التمدن. ومرة أخرى، أؤكد أنني لا أبالغ في الأمر. بل إن الحقيقة أكثر مرارة مما ذكرته. فعلى سبيل المثال، وخلال السنوات الأولى التالية للاحتلال، جاء في كل الشهادات التي أدلى بها ضباط الجيش الفرنسي ما يثبت أن التعليم الأساسي كان معمما في المدن وفي الأرياف. وسنة 1954، في الوقت الذي اندلعت فيه ثورة الشعب الجزائري ضد المحتل، كان أكثر من 90% من الجزائريين أميين باللغتين العربية والفرنسية، وكان عدد الأطفال الجزائريين في سن التمدرس الذين يزاولون الدراسة بالفرنسية لا يتجاوز 10% ، وهذا حسب المصادر الفرنسية نفسها. أما التعليم باللغة العربية الموفر في المدارس التي أقامتها، على الخصوص، جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والتي ما فتئت تتعرض لمضايقات الإدارة الاستعمارية، فلم يستفد منه، في أحسن الحالات، سوى بضع عشرات الآلاف من الأفراد. ولم يتجاوز عدد الطلاب الجزائريين في جامعة الجزائر العاصمة وجامعات فرنسا بضع مئات، في اختصاصي الحقوق والطب أساسا. ودائما في سنة 1954، لم يكن في الجزائر المسلمة ولا حتى مهندس واحد.
في هذه الظروف، إذا كان الحديث في الماضي عن الرسالة التمدينية للاستعمار الفرنسي خلال حقبة الهيمنة الاستعمارية كان من قبيل المخادعة المفيدة من أجل أن يطول عمرها، فإن الحديث اليوم عن فائدة الاستعمار ومزاياه ، بعد أن تم البت في الحكم عليه بالسلاح وبالقلم منذ ما يقارب نصف القرن ، يعد من الضلال الذهني في أحسن الحالات ، وفي أسوئها إحياء في شكل استيهام لهذيان سلطوي لا خير يرجى منه للشعبين الجزائري و الفرنسي.
.
|