عرض مشاركة مفردة
  #23  
قديم 07-06-2006, 10:24 AM
على رسلك على رسلك غير متصل
سـحـابة ظــــل
 
تاريخ التّسجيل: Jul 2005
المشاركات: 6,053
إفتراضي

فضول,,,,


- شاهد عيان

حدث ذلك في ساعة ازدحام، قبل الغروب في يوم الخميس الذي يسبق يوم العطلة، وحيث تجتذب أرصفة الشارع التجاري أعداداً غفيرة من المشاة والمتنزهين والمتسكعين، وممن يقصدون الشارع الشهير بغية الشراء، وحيث بات التسوق متعة الزمان الجديد.

كان الطقس بداية الخريف في غاية الاعتدال، مما يشجع على الخروج والتجوال للمتسوقين وغير المتسوقين، من شبان عازبين ومن عائلات تتعرف بشغف على البضائع المعروضة، على نية الشراء هذا اليوم أو ذات يوم قريب.

فإذا بشاب يشق الزحام فجأة، شاب طويل القامة رياضي البنية يحمل بين ذراعيه ما لا يتخيله أحد.. يحمل شابة، أجل شابة ترتدي بنطلون جينز مشدود، وترافقهما فتاة أصغر سناً منها.

لقد أثار ظهورهما المفاجئ دهشة وذهول المارة رجالاً ونساءً ومن مختلف الأعمار، ولم يكتم كثيرون ضحكاتهم كالفتيات المتحررات المظهر، وحتى المحجبات، وكذلك الشبان العابثين. وهناك من عرض المساعدة بطريقة لائقة، ومن عرضها بأسلوب تهكمي.. وهناك من شهق أمام المفاجأة كالسيدات المتقدمات في السن. أما الشرطي الشاب الذي كان ينظم في تلك الأثناء سير المركبات، فقد اقترب منهما وحاول أن يقول شيئاً، لكنه لم يفلح إذ غلبته ضحكته، وتشككه في أن من واجبه التدخل في أمر كهذا.

وأمام هؤلاء وسواهم فقد احتفظ الشاب بملامح الجد والثبات، بل إنه أخذ يرسل نظرات التحدي لمجايليه من شبان العشرينيات، هامساً بالحديث بين الفينة والأخرى إلى فتاته المحمولة التي كانت تتناوب إغماض وفتح عينيها، فيما تلتقط أذناها بعض التعليقات المتطايرة وغير المتوقعة، كقول أحدهم إنه فيلم يجري تصويره، وقول آخر إنها كاميرا خفية، وقول ثالث إنّ الفتاة مغمى عليها، فيما هي تتعلق برقبة الشاب الساخنة، وتجتهد لملمة شعرها المسدول، أما مرافقتهما المراهقة فقد بدت على شيء من الحرج وهو تتمتم بحديث إلى نفسها، أو تغافل رفيقيها وتختلس نظرات إلى البضائع المعروضة في الواجهات.

لم يستغرق المسير على الرصيف المستقيم سوى بضع دقائق، ذلك أنّ الشاب كان يغذ سيره ويشق الزحام بعزم وتصميم، ليدرك هدفاً غير بعيد وسط حشد من النظرات الفضولية القوية والتعليقات المتناثرة لعشرات من المارة، الذين ربما بل بالتأكيد لم يصادفوا مشهداً كهذا من قبل.

وما أن قطع ثلاثتهم مسافة لا تقل عن مائتي متر، حتى توقفوا أمام سيارة كورية حمراء اللون من طراز غير حديث، وسارعت الفتاة المرافقة إلى فتح الباب الخلفي للسيارة، حيث أمكن للشاب تمديد جسد الفتاة المحمولة ابتداء من رأسها ذي الشعر المسدول، وما أن نجح في ذلك وأغلق الباب، حتى أوقفه شرطي بملابس مدنية وتبادل معه الحديث.

كنت في واقع الأمر أحد المارة الفضوليين الذين استوقفهم المشهد منذ بدايته. وقد لاحظت الشاب وهو يشير خلال حديثه للشرطي بيده، إلى موقع ما في الاتجاه الذي كان سائراً فيه حاملاً فتاته، وقد ندت على الشرطي ضحكة صافية مفاجئة، بعد أن فتح الشاب باب السيارة الخلفي، وجعل الشرطي ينظر مجدداً إلى الفتاة، ثم صافح الشرطي بحرارة الشاب، الذي لم يلبث وأن انطلق بالسيارة دون أن يهدأ فضول المارة.

لم يكن مجرد فضول بل من علامات الغفل وسوء النية الشائع، فالجمع الذاهل وكنت في عداده، وبعشرات العيون المفتوحة والمحدقة، لم يلحظ جبيرة بيضاء تكسو الساق اليمنى للفتاة حتى القدم، مما يجعلها عاجزة عن المشي، وإذ لم يتمكن الشاب من إيقاف سيارته قرب عيادة العظام والمفاصل، حيث جاء بالفتاة للعلاج فقد صمم ببراءة نادرة على الخروج من العيادة، حاملاً الفتاة على ذراعيه في تحدٍ مثير لما هو مألوف.

ذلك ما أفضى به الشرطي المدني مضيفاً في النهاية إنها زوجه الشاب. لم يعرف أحد هوية الشاب، الذي رمقته عشرات العيون من قبل بنظرات الهزء، غير أنه نجح بلا شك وعلى طريقته في البرهنة لفتاته على مدى حبه لها. ولأنّ أحداً لم يلتقط صورة لذلك المشهد الفريد لإهدائها للشاب ولزوجته ذات الساق المصابة، والتي يحملها زوجها، فقد عزمت كشاهد عيان أن أروي ما حدث..




محمود الريماوي (كاتب من الأردن)
__________________
الرد مع إقتباس