عرض مشاركة مفردة
  #1  
قديم 26-02-2001, 08:26 PM
أبوأحمد الهاشمي أبوأحمد الهاشمي غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2001
المشاركات: 251
Post إجابة السيد طارق السعدني نفعنا الله به بخصوص مسألة قدم العالم

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد :
فقد أجابني السيد طارق السعدي الحسني عن مسألة قدم العالم من خلال البريد الالكتروني وعلق على ما كتبته بخصوص هذه المسألة فنورني وعرفني ما لم أكن أعرفه وكشف لي حقيقة قول ابن تيمية . وها أنا أنقل ما أجابه به علي وكتب بعد أن أجازني على ذلك ليعم النفع جميع المسلمين .
قال نفعنا الله به :
الجواب: عزيزي، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وطيباته.
أسـأل الله تعالى المبدي المعيد: توفيقك الحقَّ وقد أجراك على طريق أهله، فثـارت حميتك في وجـه المعتدين على جناب التوحيد، المنتهكين حرمـاته من سُـذّج العبيد.
وبعد: فإن ردك هذا مبني على غير تحقق من مذهب القوم، وافتراضٍ شخصي لردودهم، فلم يكن بالرد الذي يُفحم بعباراته الخصم، غير أنه بمقصده وإشارته يهز أركانه.
والحق: أن مذهبَ ابن تيمية الحراني في المسألة يتلخص في: ( أن هذا العالم حَدَث بعد فنـاءِ مُحْدَثٍ قَبْلَه على وجهٍ لا يخلو الوجودُ فيه مِن مُحْدَث )!! وهو مـا دفع أهل الحق للرمز إلى قوله بقِدم العـالم بالنـوع؛ لأنه يُفضي إلى موجود قديم سـماه المدّعي مُحدثاً ليوهم الناس، أو لتوهمه أن هذه التسمية تنجيه من لوازم ذلك الشِّركيَّة والعياذ بالله تعالى؛ لأن ما لا أول له من المحدثات أنواعاً أو أفراداً واجب الوجود ضرورة، وإلا كان الكلام عن التسلسل وإثبـات عدم الأولية عبثـاً.
بل أنا أحقِّق في عبارات لهذا الزائغ تفيد قوله بقِدم فرد من المحدثات، هو: ( مادَّة غير مُشَاهَدَة؛ لعدم تكوينها في حِسِّ الحواس الباطنة والظاهرة )، بها أو منها تحدث العوالم المتعاقبة!! كقوله في نقد مراتب الإجماع:" هذا الموضع قد أخطأ فيه طائفتان ( طائفة من أهل الكلام من اليهود والمسلمين وغيرهم ): ظنّوا أن إخبار الله بخلقه للسماوات والأرض وما بينهما يقتضي أنهما لم يُخْلَقَا من شيء، بل لم يكن قبلهما موجود إلا الله!! .. "اهـ!! وقال في شرح حديث عمران بن حصين:" ولم يذكـر القـرآن خلق شـيء من لا شيء، بل ذكر أنه خلق المخلوق بعد أن لم يكن شيئاً .. مع إخباره أنه خلقه من نطفة "اهـ
وما ينبغي التنبيه عليه هنا: أن المدعي استغل ( إثبات أهل الحق إمكان التَّسلسل فيما لا يزال )، فجيره إلى ما قرره هو من ( إثبات التسلسل في الأزل )، أي: إحداث مُحْدَث بعد مُحْدَث كانَ مِن الأزَل، أي: حيث لا ابتداء لوجوده!! وإنما أراد أهلُ الحق بعبارتهم: إثبات إمكان إحداث ( مُحْدَث ) بَعْدَ ( مُحْدَث كانَ بعـد أن لم يكن )، فوجوده على سبيل الإمكان لا الوجوب، بحيث يصح خلو الوجود من مُحْدَث؛ لأن وجوب الوجود صفة الله تعالى وحده.
وأصله في تقرير بدعته هذه: ( تعلق الصفة بأثرها )!! أي: أن الوجـود إن خـلا من مخلوق انتفى كـون الله تعـالى خالقـاً ـ على زعمه ـ، وإن خلا من مرزوق كذلك .. الخ!!
حتى قال بعد تقريره زعم النوع من لوازم الواجب:" وإذا كان النوع من لوازم الواجب امتنع وجود الواجب بنفسه بدون النوع "انتهى كلامه الخبيث[ الدّرء: 1/312 ]!! فتأمل.
ولإتمام جريمته زعم أن ذلك يدل على كمال الله تعالى!! فقـال:" وإن قُـدّر أن نوعهـا لم يزل معـه، فهذه المعيّة لم ينفها شـرع ولا عقـل، بل هي من كماله "انتهى كلامه الخبيث[ شرح حديث عمران: 84 ]!! علماً بأنه أغلق باب تُقية أتبـاعه باللغة ونحوها سـتراً عليه، فقال قبل ذلك:" فالأزل معنـاه: عدم الأوليّـة، .. فقولنـا: ( لم يزل قادراً )، بمنزلة قولنا: ( هو قادر دائمـاً )، وكونه قـادراً وصف دائم لا ابتـداء له. فكذلك إذا قيل: ( لم يزل .. يفعل ما شاء ) يقتضي دوام كونه .. فاعلاً بمشيئته وقدرتـه .."انتهى كلامه الخبيث[ المصدر السابق ]
فإن علمت هذا، فاعلم أنه أضاف فيه على بدعته: الكذب على الله تعـالى ورسـوله صلى الله عليه وسلم ودُعَاتِه وشـاهِدِه؛ بزعمه ( أن ذلك لم ينفه شـرع ولا عقل )!! وهذا حال المبتدعة دائماً، إلا أن يكون أراد: شـرعَ هواه، وعقلَ أمثاله؛ لأن شرعَ الله تعـالى والعقـلَ الرّاشِـد الصحيح على خلاف دعواه الخبيثة:
فأما ( شرع الله تعالى ):
فقال الله تعالى: { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ }[ الحديد: 3 ]، مبيّناً أن ( القِدَمَ واللاعَدَم )، يعني: الأوَّليّة الأزليَّة والآخِرِيَّة الأبديّة صفةٌ له سبحانه وتعالى وحده. وفي الخبر: { لا يزال الناس يتساءلون عن كل شيء حتى يقول: لو كان اللهُ قبلَ كل شيء فما كان قبل الله؟! فإذا قالوا لكم ذلك فقولوا: كان الله قبل كل شيء وليس قبله شـيء، وهو الآخر بعد كل شيء وليس بعده شـيء، وهو الظاهر فوق كـل شـيء وليس فوقه شيء، وهو الباطن دون كل شيء وليس دونه شيء، وهو بكل شـيء عليم، فإن هم أعادوا المسألة فابصقوا في وجوههم فإن لم ينتهوا فاقتلوهم }، وفيه: فضلا عن إفراد الله تعالى بالأولية والآخريَّة تفسير عزيز لقول الله تعـالى: { هو الأول والآخر والظاهر والباطن }؛ إذ بين الإفراد بالأوليَّة والأبديّة مع انتفاء الزمان في القسم الأول، والإفراد في وجوب الوجود المُنَـزّه عن المكـان ولوازمه وغيـر ذلك من معـاني الخلق في الآخَـر. وهو حق لا شك فيه عند كل سُنِّي عاقل رشـيد.
وقال سـبحانه: { قُلِ اللهُ يَبْـدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ }[ يونس: 34 ]، مبيناً أنه تعالى يوجِد المخلوقات على وِفْق إرادتـه، ما يعني إمكانية المخلوقات لا وجوبها، وهو ما أشـار إليـه عز وجلّ أيضاً بقوله: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَـا يَشَاء وَيَخْتَارُ }[ القصص: 68 ]، وقوله: { فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ }[ يس: 83 ]، { بِيَـدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَـارُ عليه }[ المؤمنون: 88 ]، { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيـدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ البروج: 13 - 16 ]، { إن ربّك فعال لما يُريد }[ هود: 70 ].
وقال تبارك وتعالى: { إِنَّا كُلَّ شَـيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }[ القمر: 49 ]، وما كان موجوداً بِقَدَر كان متناهي الطرفين: ( الابتداء والانتهاء )، وقد قال ( كل شيءٍ ) فلم يستثن مخلوقاً.
وقال جل جلاله: { كل شيء هالك إلا وجهه }، مبيناً فناءَ كل شيءٍ سِواه سـبحانه، فوجوده بدون مَوْجُوْدٍ من مخلوقاته، وهو ـ كالذي تقدم ـ يردّ دعوى وجوب وجود المخلوق أزلاً؛ إذ صح انعدامُه أبداً. ولا مجال أن يُقال: المراد ( كل شـيء من هذا العالَم )؛ لأنه تعـالى اسـتثنى نفْسَه مبيناً أن المراد: مطلق الشيء.
والآيات في هذا البـاب كثيرة، غير أنا نكتفي بما تقدم وهو كافٍ؛ لننتقل إلى السـنة النبويَّة المُطهّرة:
فقد قال سيدنا رسـول الله محمـد صلى الله عليه وسلم: { كان الله ولا شـيء معه }، وفي رواية: { كان الله ولم يكن شيء معـه }، وفي رواية: { كان الله ولم يكن معه شيء غيره }، وفي رواية: { كان الله ولم يكن شيء غيره }، وفي رواية: { كان الله ولا شـيء غيرُه }، وفي رواية: { كان الله لا شيء غيرُه }، وفي رواية: { كان الله قبل كل شيء }، وفي رواية: { كان الله ولم يكن شيء قبله }، وكلها بمعنى واحد على التحقيق، هو: أن الأوليّة وصف الله تعالى وحده، ووجوب الوجود ليس لشيء سـواه، بل ما سـواه محدث له أوجده على وفق إرادته اختيـاراً. ولم يتأثر بإيجاده حدوث معنى له سبحانه وتعالى.
ويهديك لاتفاق الروايات على معنى أحديَّة الله تعالى في الأوليَّة غير ما ظاهر من ألفاظها، خبـر: { لا يزال الناس يقولون كان الله قبل كل شـيء فمن قبله }، وقوله عليه الصـلاة والسـلام: { أنت الأول فليس قبلك شـيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء }؛ إذ فيه: بيـان أن نفيَ القَبْلِيَّة نفيٌ للمَعِيّة والغَيْريّة؛ حيث قـال: ( فليس بعدك شيء ) مبطلاً توهّم وجوب وجود المخلوق من كل وجه. ولا يُقـال: المراد ( بعدك من هذا العالَم )؛ لأنه تعـالى استثنى نفسه، وليس هو سبحانه من هذا العَالَم، ما يعني: أنه أراد الوجود مطلقاً.
وهنا نسجل واقعة أخرى من بدع الحراني هي: ( ضرب السنة بعضها ببعض، وتحريفها )؛ إذ قال في نقده لمراتب الإجماع:" .. الذي في الصحيح .. حديث عِمْران بن حُصَيْن عن النبي صلى الله عليه وسلم: { كان الله ولا شيء قبله .. }، وروى هذا الحديث البخاري بثلاثة ألفاظ: روى: { كان الله ولا شيء قبله }، وروى: { ولا شيء غيره }، وروى: { ولا شيء معه }، والقِصَّة واحِدة، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال واحِداً مِن هذه الألفاظ والآخران رويا بالمعنى، وحينئذٍ: فالذي يُناسِب لفظَ ما ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه كان يقول في دعائه: { أنت الأول فليس قبلك شيء .. }. فقوله في هـذا: ( أنت الأول فليس قبلك شـيء ) يُناسِب قوله: ( كان الله ولا شيء قَبله ) .. "اهـ
فانظر كيف ادعى التعارض بين الروايات ثم رجَّح بينها من دون مرجِّح!! فضرب النصوص بعضها ببعض ما أدى به إلى تحريف الحكم المقصود منها كما أشرنا ابتداء.
والحق: قول الحافظ ابن حجر في كتاب بدء التوحيد من الفتح:" قوله ( كان الله ولم يكن شـيء قبله ) تقدم في بدء الخلق بلفظ ( ولم يكن شيء غيره )، وفي رواية أبي معاوية ( كان الله قبل كل شيء ) وهو بمعنى ( كان الله ولا شيء معه )، وهي أصرح في الرد على من أثبت حوادث لا أول لها من رواية البـاب، وهي من مستشنع المسـائل المنسوبة لابن تيميـة، ووقفت في كلام لـه على هـذا الحديث يرجح الرواية التي في هذا الباب على غيرها!! مع أن قضية الجمع بين الروايتين تقتضي حمـل هذه على التي في بـدء الخلق لا العكس، والجمع يقدم على الترجيح بالاتفاق .. "اهـ وكان قد قال في كتـاب بدء الخلق:" وفيه دلالـة: على أنه لم يكن شيء غيره: لا المـاء ولا العرش ولا غيرهما؛ لأن كلَّ ذلك غيـرُ الله تعـالى .. "اهـ
وفيما قدمناه من الروايات والتعليق عليها رد حاسم لمادة بدعة هذا الزائـغ هذه فضلاً عن فردهـا، ولكن أضيف هنا أيضاً قول الإمام الكوثري رضي الله تعالى عنه في نقضه لنقد الحراني:" ليس بين الألفاظ الثلاثة تنافٍ حتى يُقبل أحدها ويُلغى الآخران، بل الله سبحانه كان ولا شيء قبله ولا شيء غيره ولا شيء معه. ولو سألته [ يعني: الحراني ] عن وجه دلالة الدعاء على إلغاء الآخرين لما استطاع إلى الجواب سبيلاً، لكن الهوى يُعمي ويُصِم "اهـ
قلت: فإن لفظ ( قبـل ) لغةً يحتمل معنى الغيرية والمعيَّة. ويصح أن يكون لفظ ( غيـر ) أو ( مع ) مفسِّراً لـ( قبل ) في الدعاء.
فائـدة: والحكمة من تعدد الألفـاظ التي يمكن الجمع بينهـا في روايـات المسـألة الواحدة: حفظ مراد الشَّارع، مصداق قول الله تعـالى: { إنا نحن نزلنـا الذكر وإنا له لحافظون }.
هذا، ونسـجل هنا واقعة أخـرى من بدع الحراني في السـنة أيضاً هي: اعتـداؤه على دعـاء التوحيـد { أنت الأول فليس قبلـك شـيء .. } بمـا أولـه بـه تسـلسـل الحوادث أزلاً.
وقال صـلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَـلَّمَ أيضاً: { لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَـاءَلُونَ حَتَّى يَقُولُوا هَذَا اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَـيْءٍ فَمَنْ خَلَقَ الله }، وهو صريح في إثبـات تفرد الله تعـالى بالأوليّة، بل قال عليه الصلاة والسـلام: { يأتي الشـيطان العبد أو أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ } مبيناً أن الشيطان عجز عن حشو بدعة الحراني في الحوادث بين الناس حتى قُيّض الأخير له!! بل الخبر أقرب إلى خوف الشيطان من إحداث هذه البدعة التي سبقه بها الحراني كما سبقه أبو جهل في المؤامَرة. فتأمل
فائـدة: وفي رواية لهذا الخبر: { فإذا بلغه } أي: خاطر السـؤال المذكور، { فليستعذ بالله، ولينته } أي: يترك التفكر في ذلك الخاطر مُسَـلّماً للضرورة. وفي رواية: { فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله }، أي: أكتفي بما صدّقته من ضرورة أحديَّة الله تعالى، وهو ما جـاء في رواية: { فقولوا: الله أحـد، الله الصمـد }، وذلك جميعـاً: نصّ على قاعدة أهل الحق في ( العجز )، وأن ( العقول تثبت ما لا تُدرك )، ولذلك جـاء في روايـة: { ذاك صريـح الإيمـان }، وفي رواية: { تلك محض الإيمان } أي: علمكم بالعجز، وإيمانكم بالغيـب الذي دعاكـم لإثبـات الغيب دون قياسه على المُدركـات، هو محض الإيمـان وصريحه، المُشـار إليـه بقول الله تعـالى: { الذين يؤمنون بالغيـب }. فتنبه لهذا فإنـه مهـم
والأخبار في هذا البـاب كثيرة أيضاً، غير أنا نكتفي بما تقدم وهو كافٍ؛ لننتقل إلى دعاة الله تعالى من أئمة المسلمين وأعلامهم:
فقد قال إمام الحَرمين رضي الله تعالى عنه:" أن الأمة أجمعت على منع إطلاق القول بأن القَديم خلق في أزله وكان يخلق "اهـ[ الشامل: 305 - 306 ].
وقال القاضي عيـاض رضي الله تعـالى عنه في فصل ( بيـان ما هو من المقـالات كفرٌ، ومـا يتوقّف أو يختلف فيه، ومـا ليس بكفر ):" اعلم أن تحقيق هذا الفصل وكشف اللبس فيه مورده الشـرع، ولا مجال للعقل فيـه. والفصل البَيِّـن في هذا: أن كل مقالة صرَّحت أن معه [ سبحانه وتعـالى ] في الأزل شيئاً قديماً غيره .. فذلك .. كُفرٌ بإجماع المسلمين "اهـ[ شرح الشفا: 2 / 510 - 514 ].
وهنا نسجّل واقعة أخرى من بدع الحراني، هي: ( خرق الإجماع )، بل ( خرق الإجماع والأصول المتفق عليها )!! فإن هذا الزائغ لمـا بلغ في نقده كتـابَ ( مراتب الإجماع ) لابن حزم باب الإجماع في الاعتقادات، وقد صدَّره الأخيرُ بقوله:" يكفر من خالفه بإجماع "اهـ، حَشَـا تعجَّباً من قول ابن حزم:" اتفقوا أن الله عز وجل وحده لا شريك له خالق كل شيء غيره "اهـ مفاده أن المسـلمين لم يتفقوا على كفر مَنْ خالف ذلك!! وأيّد دعواه بشـبهة تَمْرُق على من لـم يعرف أصول الدين ومصطلحات الأصوليين، هي: ( عدم تكفير المعتزلة بمسألة خلق أفعال العبـاد )؛ ليتسنى له خـرق مـا نقله ابنُ حزم بعد ذلك مباشـرة من الإجماع على ( أن الله تعـالى لم يزل وحـده ولا شـيء غيره معه، ثم خلق الأشـياء كلها كما شـاء )، بمـا اسـتقر في نفس القارئ من أثر حشـوه؛ فإن مَن مرق عليه حشـوه الذي ذكرنا قام عنـده ظنّ عدم ضبط ابن حزم لمسـائل الباب، فسـلّم له في غيـره.
ثم باشر بدعته بقوله:" وأعجب من ذلك حكايته الإجماع على كفر من نازع أنه سبحانه لم يزل وحده ولا شـيء غيره معه، ثم خلق الأشياء كما شاء!! .. ولكن الإجماع المعلوم هو ما علمت الأمة أن الله بينه في القرآن، وهو: أن خلق السماوات والأرض ومـا بينهما في ستة أيام ..، فإذا ادّعى المدّعي الإجماعَ على هذا، وتكفيرَ من خالف هذا كان قوله متوجهاً. وليس في خبر الله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في سـتة أيام ما ينفي وجود مخلوق قبلهما، ولا ينفي أنه خلقهما من مادة كانت قبلهما "اهـ،
وكان خلال ذلك قد ذكر حديث الأوليّـة على الوجه الذي نقلناه فيما تقدّم، وثرثر حول إثبات الإجماع، كما ثرثر حول العِبارة على عادته: أنها لم ترد في كتاب ولا سنة ولا عن صحابة ولا عن تابعين، بل زعم أنها لم ترد عن أئمة المسـلمين مُخرجـاً مثبتيها من دائرة الإمامة!! وهي واقعة أخرى من بدعه التي اضطر إليها لتثبيت دعواه. علماً بأن الشارع لم يحظر تأويل نصوصه على مراده بأي عبارة تحقق المطلوب. وهذا المبتدع نفسه أخزاه الله تعـالى ـ وقد فعل ولله الحمد ـ لم يلتزم عبـارات الشارع، بل لم يلتزم وجه الحق في تأويلها؛ إذ وصف الله تعـالى بالحـد والتّمكّن والحركة والسكون وغير ذلك مما هو مبسوط في غير هذا الموضع، ولم يرتضه شرع ولا عقل في حق الله تعالى فضلاً عن أن يرد فيه.
ولم يذكـر خلال هرجه ذلك كله قولاً لأحدٍ من العلماء فضلاً عن الأئمـة على خلاف الإجمـاع، والذي هو السبيل الوحيد لنقده، فضلاً عن نقضه.
وإنما جل ما فعل: أنه اعترض على الإجماع بما حمَّله لخبر الأوّليَّة من معنى لا يحتمله، للتدليل على بدعته الشنعاء بحوادث لا أول لها، فكشف نفسَه لكل سُنّي عاقل رشيد: أنه رجل مستكبر عنيد، أول من خرق الإجماع في ذلك.
وقد قال الإمام الكوثري في نقضه لنقـد الحراني هذا:" لا عجب في .. إكفار من يُنكر ( أنه سـبحانه لم يزل وحده ولا شـيء غيره معه )، وإنمـا العجب: اجتراء ابن تيمية هنا على القول بحوادث لا أول لهـا، والقول بالقِـدَم النوعي في العالَم، وبقيام الحوادِث به سبحانه .. منكراً ما يعزوه لصحيح البخاري { كان الله ولا شيء معه }، مع أنه هو القائل بأن ما في الصحيحين يفيـد العِلم ـ يعني: اليقين، إجراء له مجرى المتواتر ـ، ومخالفاً للإجماع اليقيني في ذلك!!
وأنّى يُتَصَوّر قِدم للنوع الذي لا وجود له إلا في الذّهن!!
وعدمُ تنـاهي ما دخـل بالفعل تحت الوجود لا يتصوره إلا عقلٌ عليل.
وعلى فَرَض وجود النوع في الخارج لا يكون موجوداً إلا ضِمن أفراده، وأنّى يكون للنوع قدم مع حدوث أفراده؟!!
ودعوى ( أن الله لم يزل ومعه شيء ) تُوَازِنُ في البشاعةِ القولَ بِقِدم شيء بعينه سواه تعالى، بل القول بالقِدم النوعي كالقول بالقِدم الشّخصي في البطلان، بل ذاك أسقط من هذا، وكلاهما يستلزم نفي الإرادة عن الله سبحانه "اهـ
ولا شـك أن فعل ابن تيمية جميعاً مدفوع بما تقدّم من نصوص الكتاب والسنة والإجمـاع الذي تطاول عليه، وما هو آت بعد هذا من نظر العقول الراشـدة.
ولئن اتضح لك أن هذا الخبيث أول من خرق الإجماع بهواه المطلق، فإنا لن نتركك في حيرة من حشوه الأول على مسألة ( خلق أفعـال العبـاد )، ولكنا سـنكتفي بنقض الإمام الكوثري رضي الله تعالى عنه أيضاً؛ فقد أجاد فيه، وهو:" بل اتفقوا على إكفـار ( من يُثبت خالقاً سواه تعالى ) بمعنى المُوجد من العَدَم بقـدرة مستقلة غيـر مستمدّة، كمـا هو المعنى المُتبادَر من الخَلق.
وفِرَقُ هذه الأمّة برآء من مثل هذا الإشراك.
وأما عدّ ( فعل العبد أثراً للقدرة المودعة في العبد ) فلا يكون خلقاً إلا بمعنى آخر للخَلق، وهو: التقدير، قال الله تعالى: { فتبارك الله أحسن الخالقين } و{ وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير }.
فلا يصح الشـق الثاني من قول ابن تيمية إلا بهذا المعنى، وهذا غير مكفّـر وإن طال إلزامهم به حتى التـزم الجبائي ومَن بعده القول بـ( الخلق ) بالمعنى الثاني. وأما الأول: فلا نشـك في كفره، ولا قائل بخالق سواه تعالى بالمعنى الأول بين فرق المُسلمين فيما نعلم "اهـ

قلت: ولا حتى قول ابن تيمية بتسلسل الحوادث أزلاً من المعنى الأول، وإنمـا هو مما أجمع العلماء على كفر معتقِده؛ لما فيه من تكذيب ورَدٍّ للتوحيد وخطاب الشارع.
وبالعودة إلى أقوال الأئمة الأعلام فقـد قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي رضي الله عنه:" فإذا أثبت المُثْبِتُ أن لا إله إلا الله، واحـد، ولا خالِقَ سـواه، ولا قديم غيره فقـد انتفى عن قول الشـريك الذي هو في البطلان ووجوب اسـم الكفر لقائله كالإلحاد والتعطيل "اهـ[ شعب الإيمان: 1 / 104 ].
وأقوال أفراد العلماء سيأتي بعضها، وهي مسطورة في كتب الأصول، يمكن من شاء النظر فيها، لأنا نكتفي هنا بما نقلنا سيما الإجماع وهو كافٍ، لننتقل إلى شهادة الشاهد الذي ارتضاه اللهُ تعالى وزكاه بقوله: { وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُون }[ العنكبوت: 43 ]، وبغير قول من خطابه تبارك وتعالى، وهو: ( العقل الراشد ):
فنقول بعون الله تعـالى: اعلم أن ( القول بقِدم شيء مع الله تعـالى وُجِد لوجوده سـبحانه ) باطل وسفسطة، لا يدل إلا على سـقوط قائله عن مرتبـة الخطـاب، وجهـله بما حضر فضلا عمـا غـاب. بل إن مدّعيها إذ جرد ذاك الشـيء المزعوم عن الألوهيَّـة في محاولـة للفرار من لوازم الاسـم لم يبلغ الأمـان بفعله؛ لأنه دار إلى محل الفِـرار، وذلك:
أن حقيقة ( القَدِيْم ): مـا ليس له أول. وما ليس له أول لا يُوجَد بشيءٍ، بل يجب وجوده لذاته. ولا يتحقق ذلك لغير واحِدٍ على التحقيق؛ لأن الواجب فيه أن يكون إلهاً.
وما أحسن قول بعض الأكابر رضي الله عنهم:" اعلم أن مدلول لفظة الأزل [ عند أهل الحق ] عبارة عن نفي الأولية لله تعالى، أي: لا أول لوجوده، بل هو سبحانه عينُ الأوّل لا بأوّليّة تحكم عليه فيكون تحت حيطتها ومعلولاً عنها كالأوَّليات المَخلوقة "
وحقيقة ( الحَادث ): ما له أوّل، وما له أول لا يكون قديمـاً؛ لأنـه يفتقر إلى مخصّص خصصه بالوجود فما فوقه من معاني الحِدثـان. وهو ما بينه الله تعـالى في قوله: { أم خُلِقوا من غير شيء أم هم الخالقون }، ولا يُقال: أن الخطـاب عن الناس!! لأن الاستشهاد بها لا لأسبابها، وإنما للقاعدة التي توجه الخطـاب للناس على هذا الوجه بناء عليهـا.
وما أحسن قول بعض الأكابر رضي الله تعالى عنهم:" لو كانت العِلّة مساوية للمعلول في الوجود لاقتضى وجود العالم لذاته ولم يتأخر عنه شيء من محدثاته. والعِلّة معقولة، وما ثم علة إلا وهي معلولة، ولو كان الحق تعالى علة لارتبط، والمُرتبط لا يصحّ له تنزيه "اهـ
وحقيقة ( الخَالِق ): المخترع للشـيء المعلوم عنده على وِفْق الإرادة اختياراً لا اضطراراً. وذلك يقتضي تأخـر الفعل عن الاختيـار والإرادة، وهو مـا يعني حدوثه.
ويهديك إلى ذلك من المحسوسات في زماننا: أنه لو صح نسبة الاختراع إلى المضطر لما نُسب شيء لأحدٍ يعتمد على آلات وأجهزة مضطرة لفعل ما بُرمِجت عليه من الوظائف والأفعال. بل حتى لصح أن يُقال: نحو: يد فلان اخترعت كـذا!! ولئن قال قائل: الآلة مخترعة على المعنى الحقيقي لكان ضحكة بين يدي من له أدنى حظ من التمييز فضلاً عن المعرفة وفضلاً عن المتخصصين.
وقد قال الله تعـالى: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَـا يَشَـاء وَيَخْتَارُ .. سُـبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }[ القصص: 68 ]، مبيناً أن دعوى قِدم شـيء من أفعـال الله تعـالى تعطيل لمشيئته واختيـاره، فَشِـرك بالله العظيم.
ومن ذلك: قوله سـبحانه: { وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَـلُ مَـا يُرِيدُ } [ البقرة: 253 ]، { إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }[ الحج: 14 ]، { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }[ البروج: 16 ] ..
ويوضح ذلك قوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُـولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ .. } [ الأحزاب: 36 ]؛ إذ بيَّن فيـه: أن المُلزَم بالفِعـل غير مختارٍ على التحقيق.
ولذلك لما قال ابن القيم في نونيته:" والله ربي لم يزل ذا قدرة ومشيئة ويليهما وصفان * العلم مع وصف الحياة وهذه أوصاف ذات الخالق المنان * وبها تمام الفعل ليس بدونها فعل يتم بواضح البرهـان * فلأي شـيء قد تأخر فعله مع موجب قد تم بالأركان * ما كان ممتنعا عليه الفعل بل ما زال فعل الله ذا إمكان "اهـ[ شرح القصيدة: 1 / 352 ]!! رد عليه الإمام الكوثري رضي الله تعالى عنه بقوله:" هذا تصريح منه بأن الله سبحانه فاعل بالإيجـاب، انخداعاً منه بقول الفلاسفة القائلين بقِدم العالم وقد أتى أهلُ الحق بنيانهم من القواعد، وإن كان الناظم المِسْـكين بعيـداً عن فهم أقوال هؤلاء وأقوال هؤلاء. ثم يُناقِضُ الناظم نفسه ويُثبت لله الاختيار!! وهو في الحالتين غير شاعر بما يقول، تعالى اللهُ عما يقول.
وأرجو أن يَفهم القـارئُ هنـا معنى لا بُـد من اعتقاده وهو: أن القائلَ بأن الله فاعل بالإيجـاب في ناحية، والإسلام كله في ناحية.
وأي مسلم يستطيع أن يقول: إن ربنا مُرْغَمٌ على فِعل ما يَفعله؟!! "اهـ[ السيف الصقيل: 82 ].
تنبيه: وإياك أن تغتر حبيبي بقول الناظم فيما تقدم: ( ما زال فعل الله ذا إمكان )، أو قوله بعده:" وما دون المهيمن حادث ليس القديم سواه والله سابق كل شيء ما ربنا والخَلق مقترنان * والله كان وليس شيء غيره لسنا نقول كما يقول اليوناني "اهـ!! فتظن أنه ينفي القِدم عن شيء سوى الله تعالى، بل إن أردت أن تنتفع من ذلك: فليكن من جهة علمك مقصد هذا الزائغ بهذه العِبارات حيثما قرأتها في كتبه ـ التي ورث فاسِد مواضيعها عن شيخه ( فكان يُردّد مقالة الحراني ) وسَـرق صالحها من كتب الصوفيّة وأئمة أهل الحق كما أشار غير واحِـد من أهل البيان ـ، فإنه قد قال بعده:" فلئن زعمتم أن ذاك تسلسل قلنا صدقتم وهو ذو إمكان "اهـ!! ثم أعلن الخبيث صراحة:" النوع والآحاد مسبوق وملحوق وكل فهو منها فـان * والنوع لا يفنى أخيراً فهو لا يفنى كذلك أولا ببيـان .. "اهـ!! فتأمل
ورحم الله تعـالى الإمام الكوثري؛ إذ علق على كلمة الناظم الأخيـرة بقوله:" عدم فنـاء النوع في الأزل بمعنى قِدَمه، وأين قِـدم النوع مع حدوث الأفراد؟!! وهذا لا يصدر إلا ممّن به مسّ، بخلاف المستقبل. وقال أبو يعلى الحنبلي المعتمد:" والحوادث لها أول ابتدأت منه خلافاً للمَلاحِدة "اهـ، وهو من أئمّة الناظم، فيكون هو [ يعني الناظم ] وشيخُه من الملاحِدَة على رأي أبي يعلى هذا، فيكونان أسوأ حالاً منه في الزيغ. نسأل الله السلامة "اهـ [ السيف الصقيل: 84 ].
وقال الإمام السبكي رضي الله عنه بعد عرض بعض كلام الناظم المتقدّم وما تخلله:" قد صرّح بقبائح منها: إمكان التسلسل .. ومنها: نِسـبة ذلك إلى القرآن والسـنّة، وأنه لم يجيء أثر ينص على العَـدَم المُتقدّم!! وقد جاء: { كان الله ولا شيء معه }، و( الشيء ): يشمل الجسم والفعل والنوع والآحـاد "اهـ[ السيف الصقيل: 86 ].
وما أحسن قول بعض الأكابر رضي الله عنهم:" محال أن يكون العَالَمُ أزليّ الوجود؛ لأن حقيقة المُوجد أن يوجِد ما لم يكن موصوفاً عند نفسه بالوجود، وهو المعدوم "اهـ
وقال:" الحق تعـالى يُقـال في حقّه إنـه ( مُقَدّر الأشياء أزلاً )، ولا يُقـال في حقّه ( مُوجدها أزلاً )؛ فإنه مُحـال من وجهين:
الأول: هو أن ( كونه مُوْجِـداً ) إنما هو: بأن يُوجِد. ولا يُوْجِد تعالى ما هو مَوجود، وإنما يُوجِد مـا لم يكن موصوفاً لنفسه بالوجود: هو: المعدوم. ومُحال أن يتَّصف المعدوم بأنه موجود أزلاً؛ إذ هو إنما صَدَر عن مُوْجِد أَوْجَدَهُ، فمن المُحال أن يكون العالم أزلي الوجود.
الثاني: من ( المُحَـال ) وهو: أنه لا يُقـال في العالَمِ إنه موجود أزلا؛ وذلك: لأن معقول لفظة ( الأزل ) نفي الأوليّة، والحق تعـالى هـو الموصوف بذلك. فيستحيل وجود العالَم بالأزل؛ لأنه رجع إلى قولك: العـالَم المستفيد من الله الوجودَ غير مستفيد من الله الوجود!! لأن الأوليّة قد انتفت عنه تعالى بكون العالَم معه أزلاً ".اهـ
هذا، وإن الاتصاف بالتكوين ( أي: الخلق والإيجاد .. الخ ما يُعبَّر عنه بصفات الفعل ) يصِحّ دون وجود المُكَوَّن.
فيصحّ كون الله تبارك تعالى موصوفاً في الأزل بالتكوين للمُكَوَّن في وقت وجوده، دون أن يكون مكوّناً أزلاً.
تنبيه: وإنما لم تستلزم أزليَّةُ التكوين أزليّةَ المكوَّن؛ لأنه لمّـا كان التكوينُ أزليـاً مستمراً إلى وجودِ المُكوَّن وترتّبه عليه لم يكن ذلك من انفكـاك الأثر عن المؤثّر وتخلّف المعلول عن علته.
كمـا أنـه لم يلزم من ذلك عرضيّة التكوين؛ لأنه صفة حقيقيّة، هي مبدأ الإضـافة، أي: إخراج المعدوم من العَدَم إلى الوجود.
وما أحسن قول الإمام أبي طالب المكي رضي الله تعالى عنه:" وهو أيضاً يشـهد المآل والأواخر إلى نهـاية نهاياتها في أبد أبدها، كما يشهد ذلك اليوم، أعني: من غد وبعد غد وما وراءه إلى يوم القيامة وما فيها، وهذا كله عدم لم يخلقه بعد؛ لأن علمه بذلك شهادة له، لأنه ليس بينه وبين علمه حجاب، فهو يشهد الكون من أوله إلى آخره من حيث علمه بعلمٍ هو وصفه، ومشاهدة هي نعته .. فلا موجود في الأولية ولا المُشـاهدة سواه، ولا شريك له في القِدَم، ولا يقدم شاهد إلا إيـاه .. فصفاته قديمة وكائنـة موجودة بكائنته ووجوده، والأفعـال مُحدثـة مظهرات بحدودٍ وترتيب، وأوقاتٍ بترتيب، فلا موجـود في الأوليّـة ولا المشاهدة سواه، ولا شريك له في القِدَم، ولا قيوم له في الأبـد والأزل سـواه قبل وجود الوقت والحدثان .. فالله سـبحانه وتعـالى عالم بالكون قبـل الكون .. ثم أظهر الخَلق عالَمـاً بعد عالَم في وقت بعد وقت .. فالكون موجود لـه بعِلمه لِسَـبق عِلمه به، ولا بيان له في عِلمه، ولا أثر لـه في وصفِه، ولا وُجود للكون في وجود كينونته، ولا قَدَمَ لـه في قِدَمِ أزليّتـه .. جـلّ الواحِد المتَّحِد بنفسِـه عن ثـانٍ معـه في الأزل، أو شـريك له في القِـدَم .. بل هو الأول الذي لم يزل بلا أول، والقديـم الأبد بلا وقت ولا أمَد ..
فمَن شـهد مـا فصّلناه بنور اليقين لم يدخـل عليـه قِدَم العـالم، .. ومَن لم يهتد بما بيّنـاه .. ودخلت عليه شبهةُ قِدَم العالَم، فألْحَدَ برؤيته قِدَمَ الحِدثان، أو جَحَدَ قِدَم العِلم بنفي وجود الحدث فيه وهذا شرك بالصِّفات بترتيبه إياها .. ونحن بريئون من شـهادته، مُبطِلون لدعواه، منكرون لِشِـرْكِه في القِدَم .. لأن مَن قال: ( إن شـيئاً قديم مع الله تعالى )، أو: ( موجود بنفسه لِنَفسه )، فقد أشرك في الصّفات.
وليس يختلف أهـلُ اليقين بحمـد الله تعـالى في جميع ما ذكرناه "اهـ[ القوت: 1 / 143 - 147 ].
وهذه الكلمـات المختصرة من قول الإمام رضي الله عنه وإن كنـا أوردناها في موضع خاصٍّ فإنها قد اشتملت الرَّد على المسألة جميعاً، فتأمل جيداً
وحقيقة ( الإيجاب بالذات ) وجود شـيء لوجود مسبِّبه، فلا يصح وجودُ المُسبِّب دونه، ولا اختيار له فيه!! ولا يخفى ما في هذا من اسـتلزام التخصيص على الطرفين والحدوث لهما؛ لأن حقيقة ذلك: ترتيب شيء على شيء. وذلك لا يصح له وجود لذاته، فضلاً عن أن يصح له أزل.
ثم إن قيل: أن الشـيء المرتب ممكنـاً. فإن ذلك أشد فسـاداً؛ لأن وجـود ممكن معيـن ليس أولـى من وجود غيـره من الممكنـات.
فوجود شـيء ممكن أو غيـر ممكن مع واجب الوجود لذاته لا يتأتى إلا من مخصص مختـار، فإن كان اللهَ تعـالى صح، ووجب عدم أزلية ذلك الشيء، وإن لم يكن اللهَ تعالى وجب كونه سبحانه والممكن المعلول به حادثان.
وقد أجاب أهل الحق عن دعوى الإيجاب بالذات بأجوبة كثيرة منها:
أنه لو كان تعـالى موجباً بالذات: للزم من ارتفاع هذه الحوادث وعدمهـا ارتفـاع ذات الله تعـالى وعدمـه، وهذا مُحـال، فذاك محـال.
وللزم من قِـدَمه قِـدم المفعول، فيلـزم أن يكون سبحانه مفتقراً إلى المؤثر، وذلك محـال.
وللزم قِدم العـالم، والقول بوجود قدمـاء كثيرة!! وذلك مُحال؛ لأن ( القِدَم ): صفة سـلبية ثبوتيّة، عِبـارة عن سلب المسبوقيّة بالعَـدَم، وليست صفة وجوديّـة. فلو وُجِـدَ قُدماء لتشاركت في هذا المفهوم، وبعد ذلك: إما أن تكون مخالفة في شيء من المقومات أو لا تكون.
فإن لم تختلف في شـيء من المقومات تسـاوت في تمام الماهية، فتسـاوت في لوازم الماهية، ولـزم كون كلهـا علة للبواقي، وكون كلها معلولة للبواقي!! وكل ذلك مُحال.
وإن اختلفت في سائر المقومات، كانت متساوية في القِدم، ومختلفة في ذلك الاعتبار الآخر، وما به المشاركة مُغاير لما به المُخالفة. فيلزم كون كل واحد من تلك القُدماء مُركباً من قيدين، وكل واحد من ذينك القيدين لا بُد وأن يكونا متشاركين في القِدم؛ لأن مـا ليس بقديم يمتنع كونه جـزءاً من ماهية القديم. وإذا كان الجزءان متشاركين في القِدم ولا بُد أن يكونا مختلفين باعتبـار آخـر، فحينئذٍ يكون كل واحـد من ذينك الجزأين مركباً من جزأين آخرين، والكلام في كل واحد منهما كما في الأولين، فيلزم كون كل واحد من أولئك القدماء مركباً من أجزاء غير متناهية، وذلك محال.
هذا، وقد تقدَّم في الفروع السـابقة تفصيل مـا أجمِل في هذا الفِرع، فلا حاجة لتكراره.
وما أحسـن قول بعض الأكابر رضي الله عنهم:" لا يُقال ( العالَم صادر عن الحق تعالى ) إلا بِحُكم المجاز لا الحقيقة؛ وذلك لأن الشرع لم يَرِدْ بهذا اللفظ، وجلّ اللهُ تعالى أن يكون مصدر الأشياء؛ لِعَدَم المُناسبة بين الممكن والواجب، وبين مـا يقبل الأوليَّة وبين ما لا يقبلها، وبين مَن يَفتقر وبين من لا يَقبل الافتقار.
وإنما يُقال: إنه تعالى أوجَدَ الأشياء مُوافِقَة لِسَبق علمه بها بعد أن لم يكن لها وجود في أعيانها، ثم إنها ارتبطت بالمُوجِدِ لها ارتباط فقير مُمكن بغنيّ واجب .. ".اهـ
فإيجاب وجود المخلوق لوجود الخالق، ترجع حقيقته إلى الإيجاب بالذات ونفي الصّفات عنـد المحققين، فلا يُنجي مدعيها بعد ذلك الإقرار بالصفات وإثباتها، كمـا لا يُنجيه من كونه أشرك بالله تعـالى في صفة من صفاته.
وحقيقة ( المُستكمل بغيره ) ما هو ناقِص في نفسه. وهو المُحتاج؛ لأن الاحتياج إنما هو كون كلاً من وجود الشيء وعدمه لا لذاته، بل لأمرٍ خارج. وذاك هو عين المُحدث، فلا أدري مسـتوى السـقوط الذي بلَغَه ابن تيمية ومَن تَبعه حتى تجرءوا على التفوه بمـا نقلنـاه ابتداء فضلاً عن اعتقاده!! فإن ذلك عين إنكـار الألوهية التي تشـدقوا بدعوى الحفاظ عليهـا.
ولئن كـانت هذه الدعوى كذلك، فمـا الظن بهم وقـد تمـادوا وتطاولوا إلى اعتبـار التحيز والجسمية أو لوازمها من ذلك؟!!
فلله درك أيها الإمام الشيرازي حيث قلت في أسلاف هؤلاء بالحشو في التوحيد:" والأولى بمن تكلم معهم من أهل الحق في ذلك، أن لا يُطالبهـم في الابتـداء إلا بالفَرق بين القديم والمُحدث، فمَن كان جاهلا بذلك فالسّـكوت عنه أولى من كلامه، ويُؤمر بمعرفة ذلك، فإن أصـل هذه المسألة مبني على ذلك "اهـ[ الإشارة: 214 ].
فانظر أيها اللبيب الحبيب فيما تقدم، لترى كيف يتخبط ويهذي من أقحـم نفسـه في علم التوحيد وهو لا يَعرف حتى الفَرْق بين القديم والمُحْدث.
فإنك إن فهمت ما تقدّم، فقد تبين لك:
أن دعوى التسلسل تلك يلزم منها: حِدثان الله تعالى على وصفٍ أرقى من وصف مـا أسـماه ذاك الزائغ محدثاً، فعدم ألوهية الله تعـالى وذاك المُحدث، أو الاشتراك في الألوهية!! وكـل ذلك محـال باطـل يدور بالمُدَّعي إلى حيث ادعى الفِرار.
ولا العقل ولا العقلاء، كما أنه لا الشرع ولا المُحقّقين من العُلماء يُقيمون وزناً لدعوى الحراني وأذياله التي لم يُسبقوا بمثلها، بل لهم أنفسهم بعدمـا تبيّنوا جهلهم في هذه المسألة وغيرها مما يُدركه من نال أدنى حظ من المعرفة والعِلم، دون أن يُختم على قلبه وسمعه وبصره غشاوة.
وأن أهل الحق يعتقدون: ( أن القديم يمتنع اسـتناده إلى المختار، وفعله بدون اختيار. ولمّا كان الله تعالى قديماً فاعلا بالاختيار، لم يكن شيء من أفعاله قديماً ممتنع العَدَم ).
وما أحسن قول بعض الأكـابر رضي الله عنهم:" وأنَّى للعَالَم بالقِدَم وما له في الوجود الوجوبي قَدَم "اهـ

واعلم أن المسألة لا تحتـاج إلى كل هذا التفريـع ولكني استحسنته للتبيين والتقريع، وأزيدك:
تنبيه: أن أصل ابن تيمية في تقرير الإلهيـات كمـا هو ظاهر للمُحقّقين يتلخّص في: ( قياس الغائب على المُشاهد )، فيحصر وظيفةَ العقـل والعلم بالغـائب في الحِسّ الباطِن والظاهر للإنسـان، بحيث أن كل معرفة لا تُدرك بمحسوس من ذلك فهي باطلة!!
وإنما ذكرت هذا هنا لتعلم مدى تهافت مذهب المدعي وتناقضه، فلو أنه على فساد هذا الأصل الظاهر أعْمَلَه في تقريره المسألة السابقة لعرف فساد مذهبه فيها.
فائدة: قال الإمـام أبو طالب المكي رضي الله عنه:" ولا تضرب له [ سـبحانه تعـالى ] الأمثـال بملزمـات العقول وتمثيلات المعقول، تعالى عن ذلك علواً كبيراً. وقد شهد الله سبحانه وتعالى بالضلالة على من ضرب لعبده الأمثال فقال تعـالى جـدّه: { أنظـر كيف ضربوا لك الأمثـال فضَلّوا } [ الإسراء: 48 ]، فكيف بمن ضرب المثلَ للسّـيِّد الأجـلّ بعد نهيه عن ذلك وإخبـاره بعِلم غيب ذلك، إذ يقول: { فلا تضربوا لله الأمثال } "اهـ[ القوت: 2 / 213 - 214 ].

وفي الختام، لم يبق لنا إلا أن نبين بعض الحقائق لمن أراد مطالعة المسألة في مظانها من كتب الحراني، فنقول:
اعلم: أنه يُفرّق بين ( الكائنة ) و ( الخلق )، فيجتمعان فيما يسـميه حِدثان، ويَفترقان في كون الأول يُعبّـر به عن عين المُحدث القديم بزعمه، بينمـا يُعبّـر بالثـاني عن غير ذلك. يهديك لذلك قوله:" ذَكرَ تلك الأشياء [ يعني: العرش والماء والكتابة في الذكر ] بما يدل على كونها ووجودها ولم يتعرض لابتداء خَلْقِها، وذَكَر السماوات والأرض بما يدلّ على خلقها "اهـ!!
وكذا يطلق عبـارة ( قدم العالم ) أو ( تسلسل الحوادث ) عامّة وهو يُريد الفَرد لا النوع ولا حتى المادة غير المشاهدة التي يظهر لنا تلبسه بالقول بها.
ويُنكر على الفلاسفة، ويُناظر في قِدم العالم وإنما ينكر من ذلك فرد هذا العالم وما في معناه.
وكذا يُطلق لفظ ( المادة ) أو ( الماديين ) وهو يُريد بذلك المادة المؤثرة التي يعتبرها الماديون علة الوجود، والماديين الذين يعتقدون ذلك، لا المادة التي يلمح إليها.
ويقول نحو: ( كل ما سوى الله محدث ) و ( يمتنع أن يقال بقدم شيء من العالم؛ لأنه لو كان قديما لكان مبدعه موجباً بذاته يلزم موجبه ومقتضاه )!! وهو يُريد أعيان هذا العالم الذي نتقلب فيه، فلا تنخدع.
إجمالاً، حيثما رأيته ينفي القِدم عن غير الله تعالى، تجد أنه يريد قِدم عين من هذا العالم وما في معناه، وهو ما تدركه إن أمعنت النظر في مذهبه في هذه المسألة، وتمكنت من بلوغ أصله فيها.
وكذا إذا رأيته يطلق نحو لفظ ( الجسم ) أو عبارة ( من غير تشبيه أو تكييف .. الخ ) ونحو ذلك مما هو في باب الصفات، فإنما يريد الأعيان المشـاهدة من هذا العالم، على تفصيل الخلقة التي براهـا المولى تعالى عليها. أي: ليس جسماً على صورة الأجسـام العالميّة، بل على وجه مخالف!! وتفصيل ذلك سـوف نفرد لـه بحثـاً خاصـا إن شـاء الله تعـالى، علماً بأننا ذكرناه في غير موضع من كتبنا ولله تعـالى الحمد حمداً كثيرا طيباً مباركاً فيه.

فإن علمت هذا، فاعلم أنـه لـم يُنـْج الحراني من بدَعه الشنعاء، سيما هذه التي نحن بصددها ما لم يفهمْ مرادَه به بعضُ أذياله أو المستورين عن حاله فسودوه من كتبه في محاولـة لإيهام القـارئ أن ذاك الزائغ ليس يقول بتلك البدعة النكراء؛ وذلك: أن إثـبات مراد المُخاطب بشيء من خطابه متوقف على جمع كل خطاب له في ذلك الشيء، والنظر في سـياقه والقرائن المحتفة به. والناظر في ذلك بالنسـبة لهذه البدعة من هذا الزائـغ لا يخـرج إلا بالنتيجة التي قررناها هنـا.
فَتَسْوِيد الزمرلي لعبارة:" فليس مع الله شيءٌ من مفعولاته قديم معـه، لا بل هو خالِق كل شيء، وكل ما سـواه مخلوق له، وكل مخلوق محدث كائن بعـد أن لم يكن "اهـ في كتاب ( شرح حديث عمران ابن حصين )، نفـخ في غيـر ضرم، واستسمان لذي ورم، لم يجْـنِ منـه إلا تسـويدَ صفحته هو بين العقـلاء والقراء؛ لأنـه أثبت به أنه لا يفهم مـا يقرأ، ويتكلم فيما لا يعلـم؛ فإن الحراني قد أسبق هذه العبارة بقوله:" كل واحد من أفعالِه لا بُد أن يكون مسبوقاً بالفاعل، وأن يكون مسـبوقاً بالعدم، ويُمتنع كَون الفعل المعيّن مع الفـاعل أزلاً وأبداً، وأما كون الفـاعل لم يزل يفعل فعلاً بعد فعـل فهذا من كمـال الفاعل .. مع العِلم بأن الحيّ .. يفعل بمشـيئته وقدرتـه، وأن ذلك يُوجـب وجود .. فعل بعد فعل، فالفـاعل يتقدّم على كل فعل من أفعـاله، وذلك يُوجب أن كل ما سـواه مُحدث مخلوق "اهـ وأتبعهـا بقوله:" وإذا قيل أن الخلق صفة كمـال .. أمكن أن تكون خالقيته دائمـة، وكـل مخلوق لـه محدث مسبوق بالعَدَم .. وأمـا جعل المفعول المُعيّن مقـارنا له أزلاً وأبداً، فهذا في الحقيقة تعطيل .. "اهـ، فضلاً عما نص عليه من مذهبـه في هذه البدعة في نفس الكتـاب وغيره مما نقلنا بعضاً منه فيما تقـدم.
وعجائب هذا الأخير كثيرة في نفس كتاب ( شرح حديث عمران ابن حصين ) الذي قام بتحقيقه والتعليق عليه، وقد نقدنا تعليقاته وبينا مواضع الفساد من كلام شيخه في متن الكتاب على نحو من طريقة الإمام التقي السبكي في ( السيف الصقيل ) وأسميناه ( كشف المَيْن، في شرح الحراني لحديث ابن حصين ).
تنبيه: واعلم أن قول الحراني فيما تقدم:" وذلك يُوجب أن كل ما سـواه مُحدث مخلوق "اهـ بعد التفريق الذي أظهره يمثل دليلاً صريحاً واضحاً على ما ذكرنا لك من مقاصده بعباراته فيما سبق.
تنبيه: واعلم أني ما تعرضت لشخص الحراني هـذا، إلا لكونه داعية بدعة باسـم الإسلام والتوحيد.
فأسأل الله تعالى الأحد الصمد القبول والرضى، والثبات على الحق، فله الحمد الخالص سبحانه وتعالى.
خادم الحق: طارق بن محمد السعدي