عرض مشاركة مفردة
  #5  
قديم 26-02-2001, 08:31 PM
أبوأحمد الهاشمي أبوأحمد الهاشمي غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2001
المشاركات: 251
Post

فرد علي نفعنا الله به :
الجواب: عزيزي ، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وطيباته.
وبعد: فأما سؤالك عن ( وجوب حدوث هذا العالم بعد فناء مُحدث قبله ) هل قال به ابن تيمية أم لا؟ قد بلغك جوابه ضمن الرسالتين السابقتين مجملاً ومفصلا، وهاأنا ذا أجمع لك ذلك مع التوضيح، تيسيراً للإحاطة به:
فأقول: إن ابن تيمية لما التزم التسلسل الأزلي إنما التزمه على أساس التعاقب؛ لأنه اعتبر أن دوام الفرد أزلاً أبداً إخراج له عن الحِدثان، .. الخ.
ومن عباراته الواضحة أيضاً في ذلك: قوله في منهاجه مبيناً سبب قول بعض الفلاسفة بِقدم هذا العالَم:" وهؤلاء إنما قالوا هذا: لاعتقادهم بطلان التّسلسل في الآثـار، وامتناع حوادث لا أول لها!! "اهـ، ثم قال بعد نقضه لمذهبهم:" وعلى هذا التقدير: فيجوز مقارنة المراد للإرادة في الأزل، ويُمتنع حدوث شيء إلا بِسبب حادث، وحينئذ: فيمتنع كون شيء من العالَم [ أي: نحو هذا العَالَم الحاضر بعينه ] أزليـاً. وإن جاز أن نوع الحوادِث دائمـاً لم يزل، فإن الأزل ليس هو عبارة عن شـيء محدَّد، بل ما من وقت يُقَدّر إلا وقبله وقت آخر، فلا يلزم من دوام النوع قِدَم شيء بعينه "اهـ!!
ثم قال:" والنصّ والعقـل دل على: أن كل ما سـوى الله تعالى مخلوق حادث، كائن بعد أن لم يكن، ولكن لا يلزم من حدوث كل فردٍ فردٌ مع كون الحوادث متعاقِبَة النـوع. فلا يلزم من ذلك أنه لم يزل الفاعِـلُ .. مُعطلاً عن الفِعل .. ثم حدث ذلك بالسبب .. فإن كل فردٍ فرد من المستقبلات المنقضية فـانٍ وليس النوع فانياً .. أي: لا ينقضي هذا النوع، وإلا فكل فردٍ من أفراده نافد منقض ليس بدائم؛ وذلك أن الحكم الذي توصف به الأفراد .. "اهـ فبيـن السبب ثم قال:" وكذلك إذا وصف كل واحد واحد من المتعاقبات بفناء أو حدوث لم يلزم أن يكون النوع فانياً، أو حادثاً بعد أن لم يكن .. فليس إذا كان هذا المُعيّن لا يدوم يلزم أن يكون نوعه لا يدوم؛ لأن الدوام تعاقب الأفراد "اهـ
ولا أعتقد بعد هذا النص وما بين يديك بقاء ريب عندك في هذا الجانب عندك. والله الموفق أعلم
وأما فهمك لاستلزام الفرد الأزلي وجوب بقائه فوجوب وجوده لذاته، فليس صحيحاً؛ لأن المقصود منه إبطال قِدم الفرد، وإخراجه بذلك عن جميع وجوه الحدثان ( أي: المحدث المعروف، وما أسماه ابن تيمية محدثا ).
ومن ثم: فليس يشترط لإحداث فرد زوال فرد قبله؛ لأنه من الممكن أن يُعتبر الطرفان عالما واحداً سبق بعض أفراده بعضاً كما يسبق الأب ابنه ولا يفنى بولادته.
وقد صرح ابن تيمية بوجوب التعاقب في غير عبارة، فقال في منهاجه:" إذا .. تبين .. أن الفاعل لا بد أن يقوم به من الأحوال مـا يصير بـه فاعلاً، امتنع أن يكـون مفعوله المعين مقارناً له أزلاً وأبداً؛ فإن هذا إخراج له عن أن يكون مفعولاً له "اهـ، و:" فلا يُعلم فاعـل إلا فاعلاً يحدث فعله أو مفعوله، لا يُقارنه مفعوله المُعيّن ويلازمه "اهـ، و:" الفاعل القـادر المختـار الذي يفعل شـيئاً بعد شـيء أكمـل ممن يكون مفعوله لازماً له لا يقدر على إحداث شيء ولا تغييره من حـال إلى حـال ( إن كـان يُعْقَـل فاعلاً يلزمه مفعوله المعين ) "اهـ، و:" وإذا قيل: ( هو مريد بإرادة أزليـة مقارنة لمُرادهـا الذي هو العالَم، أو يتأخر عنها مُرادُهـا الذي هو حوادِثُـه )، كان القول كذلك؛ فإنه إذا لم يكن له الإرادة أزلية مقارنة امتنع أن تحدث عنه الحوادث لكنه يمتنع أن لا تحدث عنـه الحوادث فيمتنع أن لا يكون له الإرادة أزلية مقارنة لمُرادهـا، مـع أن الإرادة لمفعـولات لازمة للفاعل غيـر معقول، بل إنمـا يُعْقَل في حقّ الفاعِل بإرادته شـيئاً بعد شـيء "اهـ!! و:" بل لم تزل تقوم به الإرادات للحوادث .. ولم يزل فعالاً لما يشاء .. فعلى هذا التقدير: ليس هنا إرادة قديمة لمفعول قديم "!!
وقال في درئه:" ( التسلسل ) .. إن أريد به: أنْ يحدث قبل كل حادثٍ حادثٌ وهلم جراً، فـ .. أئمة المسلمين .. يُجوّزونه "اهـ!! بزعمه، و:" ليس في هذا ما يقتضي .. قِدم شيء من العلَم، بل هذا يقتضي حدوث كل ما سوى الله؛ فإنه إذا كـان جنس الفِعـل لم يزل، لزم أنـه لا تزال المفعولات تحدث شـيئاً بعد شيء، وكـل مفعول مُحدث مسبوق بِعَدم نفسـه "اهـ!! .. الخ ما أوضحته في كتابنا ( كشف الزلل، في دعوى تسلسل الحوادث من الأزل ) الذي ما زلنا نعمل على إتمامه على أكمل وجه بعون الله تعالى.
وهذا الذي بيناه لك هنا كاف بتوفيق الله تعالى لبيان حل الإشكال الذي عرض لك.
وتبين لك أن ابن تيمية لم يشـترط زوال الحادث المعين لحدوث غيره، بل اشترط التعاقب في المحدثات، والفرق بينهما: عدم بقاء محدث تام بعينه أزلاً أبداً.
على أن تمثيلك بالناس في اشتراط فناء الحادث لحدوث غيره خطأ؛ فإن الأب لا يفنى بولادة ابنه. فتنبه
وبذلك أيضاً: يتبين لك عدم نقض وجود العرش قبل هذا العالم الذي اعتبره ابن تيمية مفتتحاً بخلق السـماوات .. الخ لِما بينا لك من مذهبه في التعاقب.
وكذا: تبين لك خطأ فهمك وفهم بعض أتباع ابن تيمية لمذهبه في تعلق الصفة بأثرها؛ لأن النصوص المتقدمة وما نقلناه لك سابقا واضح في التزامه هذا الرأي. وقد قال في شرح حديث ابن حصين:" أن الإقرار بأن الله لم يزل يفعل ما يشـاء .. هو وصف الكمال الذي يليق به. وما سوى ذلك نقص يجب نفيه عنه .. وإذا قال القـائل: ( كـان في الأزل قـادراً على أن يخلق فيمـا لا يـزال )، كـان هذا كلاماً متناقضاً .. فإن الجمع بين كونه قادِراً وبين كون المَقدور ممتنعـاً جمع بين الضِّدَّين؛ فإنه في حـال امتناع الفِعل لم يكن قـادراً "اهـ
ولا تتوهم أنـه بهذا يتكلم عن الفعل لا المفعول ـ بغض النظـر عن بطلان حدوث الفعل بذات الله تعـالى ـ؛ فلقد دَفَع هو هذا الوهم فيمـا مثله بعد ذلك بقوله:" لو فُرض وجود مدائن أضعاف مدائن الأرض في كـل مدينة من الخردل ما يملؤهـا .. الخ "اهـ فتنبه
ومـا ذكرته بعد ذلك من رؤيتك الخـاصة لمذهبه وآرائه سـوف ترى بحسن البصيرة والتوفيق للتمييز أنك لم تُنصف العلم والشـرع منه.
لكنك ـ غفر الله لك ـ أسأت في تقدير جريمة ذاك الزائغ، فأوقعتك في رجال لم تكن لتقع بهم لو زنت الأمور بالقِسط؛ فلم يكن الإمام ـ المتفق على إمامته ـ تقي الدين السبكي بالمجازف، أو المُعمل للشـرع فيما يهواه، وإنما كان إماماً فاضلاً يحكم بالشـرع في نفسه وغيره رضي الله تعالى عنـه.
فأرجو منك أيهـا الحبيب اللبيب أن تعلـم من هم هؤلاء الرجال حقاً، فلا يُذهلك طعن وتجريح الحشوية فيهم، أو ما نشأت عليه فنشأ فيك من رؤية الصلاح أو الطلاح في شيء ما، فإن العلم الحق الذي أثنى عليه الحقّ جل جلاله: ما قام على معرفة الأشياء بالحق لا معرفة الحق بها، وذلك لا يكون بالتهويل دون دليل، أو القَرع بلا دليل من الشّرع.
فإن كان موقِفك: لحكمهم عليه بما يستحق شرعاً لا هواية، فما ظنك به وقد أعمـد حكم التشـريك والتكفيـر في رجال يرجع عليه حكمه عليهم بنص الشارع الحكيم.
علماً: أن الحكم بالكفر ونحوه ليس مذموماً لذاته؛ فإن الأحكام ثبتت في الشرع، ولكن المذموم ما ابتنى على غير أصله ومستلزمه. فتنبه
فأسـأل الله تعالى أن يفتح عليك فتوح العارفين، ويفقهك في الـدين، ويهديك إلى حـقِّ الحـق على المؤمنين، وفضل الأولين على الآخرين، لتعبده على بصيرة ويقين، وتكون من أئمة المتقين، الدعاة حقا إلى توحيد الله رب العالمين. آمين
..
خادم الحق
طارق بن محمد السعدي