عرض مشاركة مفردة
  #15  
قديم 30-06-2006, 03:25 PM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

علاقات الطلائع مع الدولة :

تختلف الطلائع في بلادنا ، في العصر الراهن ،عن تلك التي ظهرت على مر التاريخ في بلادنا و بلاد العالم ، أو عن تلك التي ظهرت في العالم خلال القرن الماضي .. وذلك في عدة مظاهر ، وحتى ندخل في الحديث عن تلك المظاهر ، يجب أن ننتهي من التقرير بأن الطلائع تستحق اسمها كذلك ، عندما يتحول برنامجها النظري الى إجراء عملي ، فتأخذ سمة الحركة و التقدم في تحقيق ذلك البرنامج ، وهي باستمرار تأخذ الانحياز الى جانب الشعب ، وبعكسه ستفقد سمتها ( الطليعية ) لتتحول الى نخب ، أو جمعيات ثقافية مهمتها التنظير ، وفهرسة أخطاء من في الحكم و تحليل تلك الأخطاء ..

فتسبق الطلائع جموع الناس ، و تتقدم أمامهم بقوة في الخطى نحو أهدافها ، وقد تتفوق عليهم بفهم ما تقوم به ، ولكنها لا تتخلف عن التحرك والمضي في العمل على الوصول لتحقيق تلك الأهداف .. و بإمكاننا على ضوء هذا الفهم لمهمة الطلائع ، أن نعتبر حركة الانتشار الإسلامي قد تمت بفعل إيمان وتحرك طلائع من أوائل من اعتنق الإسلام وتحرك في قيادة المؤمنين في تحقيق أهدافهم ، كما أنهم في حركتهم الصاعدة كانوا يكسبون المزيد من المؤيدين و الأنصار لتزيد بهم قوتهم ..

وإن أردنا إسقاط نفس الحالة على حركة المغول و التتار والصليبيين ، وكذلك فإن حروب توحيد و إنشاء الصين الحديثة تعتبر امتدادا لتلك المجموعات ، فإننا لا نكون مغالين في تصنيف أول من آمن بأفكار تلك الحركات و سار من خلفه المؤيدين و الأنصار ، هم بدون أدنى شك طلائع ، اختمرت في رؤوسهم عقيدة ما ، وحولوا ذلك الإيمان لحركة منظمة ، في حالة صعود مستمر ..

إذن يتضح لنا أن في النماذج السابقة ، أن الطليعة تكتسب أهميتها و تحل بها القوة ، من خلال اختمار عقيدة قوية تؤمن بها ، تكون واضحة ، ومفهومة وقابلة لتجعل من المؤيدين والأنصار ، تابعين لها بإخلاص وتفان .. ولا بد لها من تنصيب ( آخر ) لتحرك نفسها وجماهيرها نحوه لتنهيه و تستخلص منه مطالبها ..

في الخطاب العربي الحديث ، لم يكن التشويش في وضوح الخطاب ، هو العامل الوحيد الذي جعل الطلائع تنثني دون تحقيق أهدافها ، غير الواضحة أصلا ، بل كان اختيار (الآخر ) ، عاملا إضافيا وقاتلا ، في تقزيم تلك الحركات الطلائعية ، وتحويلها لنخب حاكمة( بعد استلامها الحكم ) أو تشكل خط دفاع ثان للحكم ، بعد تكييف مطالبها ، ووقوفها الى جانب الحكم أو وقوفها في حالة مهادنة دائمة مع ذلك الحكم ، مما دفع بمؤيديها وأنصارها الابتعاد عنها ، وتركها في وضع مكشوف أمام الجماهير والحكم في آن واحد ..

فالطليعة التي تتسلح بالفكر القومي ، تعيش واقع قطري أكثر وضوحا مما في مخيلتها النظرية ، وتتعامل مع قوانينه ودساتيره ، وتكرس جهدها في أدبياتها بالتبشير بدولة (الوحدة) .. في حين تأخذ ترخيصها من دوائر الدولة القطرية ، والقبول بشروط الترخيص .. فتعيش حالة من الانفصام بأكثر من ثنائية ، ثنائية تعاملها مع المشاكل الحياتية اليومية والقوانين القطرية ، والتي لا توليها اهتماما كبيرا لا في أدبياتها ولا في تدريب كوادرها على النظر في تلك المشاكل ، وخطابها النظري الحالم بشكل (طوباوي) في وحدة , فتخسر نظرة تعاون الدولة معها من أجل تطورها ، وتخسر الجماهير التي لا ترى وضوحا في رؤية تلك الطلائع لحل مشاكلها ..

والثنائية الثانية ، تلك العقلية الفروسية الثورية التي تؤمن بتوحيد أقطار الوطن العربي ، بواسطة القوة ، والتي تبدو فقط من خلال الشعارات ، وطرف تلك الثنائية (الضعيف الخانع ) المتمثل بالوقوف أمام دوائر الدولة لأخذ ترخيص باعتصام أو مسيرة صامتة !

أما الطلائع ذات الفكر (الخطاب ) الأممي ، سواء تلك التي تدعو لرجوع الخلافة الإسلامية ، أو تلك التي تنادي بأممية شيوعية عالمية ، فإنها اختارت بخطابها صورا وردية منتقاة من التاريخ ، وأسقطت كل الشوائب التي علقت بها أو أرادت أن تسقطها ، مركزة على الصورة المثلى في الخطاب ، ولا تفتأ تردد ضرورة التزام خطها ، كمخرج مما نحن فيه . تلك الفئات (الطليعية ) لن تناقش كيفية التعامل مع ربع سكان الهند المسلمين ، والذين يساوي عددهم سكان العرب مجتمعين ، وإن أردت فحص مكونات تلك الطلائع لرأيت الخلاف فيما بين طوائفها يفوق الخلاف بينها و بين الليبراليين أو القوميين أو الشيوعيين ..

لقد تفوقت الشيوعية في نظرتها الأممية على النظرة الإسلامية (وضوحا ) رغم غياب الجانب العملي في النظرتين .. فكلاهما تتعامل مع أمم ( إسلامية ) أو غيرها .. وأسقطت كلتا النظرتين أن لكل أمة خصائصها تتعلق بأكثر من جانب ، وهما ( الجهتان ) .. لو أرادا تطوير خطابهما للزم عليهما مراعاة تلك الخصوصية ..

فقد رأينا كيف كانت الفروق بين النظرة لديكتاتورية البروليتاريا في دول غرب أوروبا التي أسقطت ( تباعا ) ، الالتزام بها كمعطى أيديولوجي محوري ، ورأينا كيف أن يوغسلافيا والصين لم تكن على وفاق كامل مع الاتحاد السوفييتي .. بل ورأينا كيف أن العناصر غير السلوفينية في الاتحاد السوفييتي ، قد اصطفت مع (جيش هتلر ) الغازي وتعاونت معه .. ورأينا كيف أن الماركسيين في كل من ألمانيا و فرنسا ، قد حاربوا بعض في الحرب الفرنسية الألمانية ..

كما رأينا كيف أن المسلمين في إندونيسيا والسنغال وتركيا وإيران لهم همومهم الخاصة التي تختلف عن بعضها ..

تبقى مسألة خاصة بنا (كعرب ) ناطقين باللغة العربية ونفهم ما تعنيه مفرداتها جيدا .. نلحظ حتى الملحدين في تلك الأمة لم يرتدوا عن دينهم الإسلامي ، بل يعودون في نهاية أيامهم لدينهم .. في حين ، من يراقب ما يحدث لمسلمين إفريقيا ، عندما استعملوا أدوات لغوية غير ( العربية ) .. فقد ارتد القسم الكبير منهم عن الإسلام ، فالقرآن نزل بلغة العرب ، ومن لم يفهم لغة العرب ، لن يفهم القرآن فهما كافيا ..

وهنا لا بد من التأكيد أن الأقليات أو الإثنيات التي تعيش داخل الوطن العربي منذ الأزل ، وقد تشكل الأغلبية في بعض الأقطار ، كالأمازيغ في بلدان المغرب ، لكنهم طالما يحسنون التكلم في العربية ، فإنه لم يسجل حالات ترك الدين في مناطقهم والارتداد عن الإسلام .. فهم عرب و إن كانوا غير عرب ، لأنهم تعاملوا مع اللغة باحتراف و رفدوا علوم اللغة والفقه بجهد خالد ..

لقد ارتاحت الدول القطرية ، من كون تلك الطلائع مرتبكة ، فبدت الدول القطرية القائمة متفوقة بخبراتها وتوازن خطابها ، على كل أطياف الطلائع مجتمعين .. وأضافت على تلك الميزة ، ميزة أخرى وهي أنها هي التي بيدها المال والتعيينات و الإعلام والقوانين التي تخدم ديمومتها !

منذ أكثر من ربع قرن ، اقتصر نشاط الطلائع العربية ، على ردات فعل هزيلة ، إزاء الأحداث العظيمة ، اعتصام ، بيان استنكار ، مسيرة صامتة ، كتابة في جريدة تصدر خارج الوطن العربي لمهاجر عربي ، أمن عدم ملاحقته ..

لو التفتت الطلائع لحالات البطالة ، والفساد ، والبيئة ، وتنسيق العمل فيما بينها ، وتنظيم انتخابات ، وتطوير قوانين تلك الانتخابات ، والمديونيات الخارجية ، وكيفية صرف أموال البلاد ، بجهد قريب من جهدها النظري الآخر ، لكسبت جماهيرها بشرف وارتقت بخطابها نحو ما تطرحه الآن ..
__________________
ابن حوران