عرض مشاركة مفردة
  #21  
قديم 01-08-2006, 03:51 AM
حق وعدل حق وعدل غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jul 2006
المشاركات: 138
إفتراضي

النموذج الثاني: من الشعائر المعطلة بشكل صريح شعيرة تحريم الربا الذي ثبت تحريمه قطعياً في الكتاب والسنة، وأصبح تحريمه من المعلوم من الدين بالضرورة، بل نص القرآن على أنه حرب لله ورسوله قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ü فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون}، (البقرة؛ 2:279). وقد ثبت في الحديث أن تحريم الربا أعظم من تحريم ما يستعظمه الناس وهو الزنا. ومع كل ذلك التحريم، ومع أنه حرب لله ورسوله، فقد أصر الحكام ليس على مجرد السماح للربا علناً - وهو بحد ذاته جريمة كبرى، بل هو إلى الردة والكفر أقرب - بل لقد اعتبروه أساس التعامل الاقتصادي داخل البلاد وخارجها، ودعموا كل المؤسسات الربوية قانوناً ونظاماً، بل وحتى بالمال حيث أنقذت الدولة بقوتها المالية البنوك أكثر من مرة حين أوشكت على الإفلاس، ولم تكتف الدولة بذلك بل منعت رسمياً وبسلطتها إنشاء المصارف الإسلامية. ومنعت نشر فتاوى العلماء حول البنوك الربوية ومنعت الأحاديث والإعلانات التي تؤيد المصارف الإسلامية، التي توجد حتى في بلاد الكفر. فهل يشك أحد بعد ذلك أن شعيرة تحريم الربا معطلة في بلاد الحرمين. ونعود نذكر بحديث شيخ الإسلام ابن تيمية عن الطوائف الممتنعة، واعتباره مجرد الإقرار بالوجوب أو التحريم لا يمنع من انطباق الوصف عليها بتعطيل الشعيرة وما يترتب شرعاً على ذلك.

النموذج الثالث: للشعائر المعطلة أو المنقوضة هو شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمقصود الشرعي بذلك ليس ما يسمى في بلادنا بهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هو قيام الدولة من خلال سلطتها على جميع المستويات بنشر الدعوة والمعروف وحمايتهما، ومنع المنكرات، كما أشرنا إلى ذلك في كلام بن تيمية رحمه الله فيما سبق. ولربما تبين لطالب الحق أن الدولة لم تقصر في تلك الشعيرة فحسب، بل لقد سعت ضدها فأمرت بالمنكر ونهت عن المعروف، وحاربت الدعوة، ولو تأمل المرء طريقة الدولة في التعامل مع الدعوة لاكتشف أن تعاملها عبارة عن برنامج متكامل شبيه ببرامج تجفيف المنابع المنفذة في بعض دول شمال أفريقيا. وفي هذا البرنامج سعت الدولة لسد كل المنافذ التي يمكن أن تصل بها كلمة الحق والمعروف إلى الناس، وتسهيل كل الطرق التي يصل بها الباطل والمنكر إلى الناس.

ففي المجال الأول ضيقت الدولة على الدعاة فجعلت الحديث إلى الناس سواء في المسجد أو في المنتديات العامة ممنوعاً إلا بإذن، واستخدم هذا النظام في منع عدد كبير من الدعاة المخلصين. وفي نفس الاتجاه فصلت الدولة عدداً كبيراً من الخطباء والعلماء والدعاة من المساجد، بل وحتى من الجامعات، رغم أن بعضهم لا يتجاوز حديثه الإيمانيات. ثم استكملت الدولة تلك الخطوة باعتقال عدد كبير من العلماء والدعاة ومئات من أتباعهم، وغيّبتهم خلف القضبان، بل وعرّضت بعضهم للعذاب، وحرمت الأمة من مجرد رؤيتهم ومقابلتهم. هذا فيما يخص الدعاة والعاملين للإسلام من داخل البلاد، أما فيما يخص من هم خارج البلاد فقد كانت بلاد الحرمين إلى عهد قريب ملاذاً للذين يهربون من الطغاة والظالمين، وأما الآن فقد أصبح من دواعي منع الحصول على تأشيرة لدخول البلد وحتى الحج والعمرة هو الانخراط في نشاط إسلامي سياسي، وأدهى من ذلك جرماً ما ذكرناه سابقاً من تسليم من يلوذ بالحرم لحكوماتهم لقتلهم والتنكيل بهم. وأما في سياق الحرب على الدعوة، فقد فرضت الدولة حصاراً شديداً على الشريط الإسلامي بإقفال عدد كبير من محلات التسجيلات الإسلامية ومنعت عدداً كبيراً من الأشرطة، وفرضت عقوبات صارمة على من يخالف ذلك، وفي نفس الميدان منعت المجلات الإسلامية بالكامل تقريباً، ومُنِع الإسلاميون من التحدث إلى الأمة من خلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، إلا من يلتزم في حدود العبادات الفردية. ومنع الإسلاميون كذلك من الوصول إلى أي منصب سياسي أو عسكري أو أمني أو تعليمي حساس، وتدخلت الدولة حتى في تعيين عمداء الكليات ورؤساء الأقسام سعياً لمنع الإسلاميين من نشر الخير، ورفع لواء الدعوة. ولنفس الغرض وهو حصار الدعوة فقد نفذت حديثاً سياسة إيقاف كل الأنشطة المالية حتى الخيرية وأقفلت جميع المبرات والمؤسسات الخيرية، كما سعت الدولة وبكل قوة لمنع أي شكل من أشكال التجمع لهدف التعاون على البر والتقوى، وتعاملت مع ذلك بكل قسوة وعنف. والمطلع على تفاصيل تنفيذ هذه الخطة يخرج بقناعة أن المقصود منها هو الإسلام ذاته وليس مجرد الانزعاج من شيخ أو عالم دأب على انتقاد الحكام. ونورد هنا قصة ما يسمى بـ«شارع الموت»، التي تجسّد فيها مفهوم حرب الدولة للإسلام ذاته، وليس لمن ينتقد الحكام، فقبل بضع سنوات لاحظ عدد من الدعاة والغيورين على الإسلام تجمعات من الشباب المنحرف خارج مدينة الرياض تجتمع للعب بالسيارات، وتداول المخدرات، واللواط وغيره، فسعى أولئك الدعاة لإقامة مخيم قريب منهم، ودعوهم بأساليب غاية في الرقة والترغيب. ولم تمض أيام حتى استقطبت تلك الفكرة آلاف من أولئك الشباب المنحرف، وبدأوا يتحولون إلى شباب صالح. ولكن لم تبدأ الفكرة بالانتعاش حتى داهمت قوات الأمن المخيم، وتم تكسيره وطرد المجتمعين بحجة عدم وجود إذن له، فلم ييأس الدعاة وسعوا إلى استصدار إذن شخصي من الشيخ (بن باز)، وأعادوا تأسيس المخيم. ولم يمض يومين حتى داهمتهم قوات الأمن وحطمت المخيم مرة أخرى، واعتقل الشخص الذي سعى لاستصدار إذن من الشيخ بن باز، ولم يُفرج عنه إلا بعد تعهد بعدم تكرار ما عمل. فبالله عليكم أليس هذا دليلاً على حرب الدعوة ذاتها والسعي في نشر الباطل بكل أشكاله ؟؟

وفي مقابل حصار الدعوة سعت الدولة حثيثاً لتخريب المجتمع بكل وسائل التخريب ففي الإعلام التخريب الفكري والتخريب الأخلاقي، وخروجاً من الحرج في نشر الرذيلة والانحراف الفكري والخلقي في وسائل الإعلام الرسمية، فقد صدّرت الدولة وسائل إعلامها إلى الخارج لتبث السموم من هناك، مثل إذاعة وتلفاز شركة الشرق الأوسط (mbc)، وجرائد «الشرق الأوسط»، و«الحياة»، ومجلات «المجلة» و«الوسط»، وغيرها، والقارئ يعرف ما نقصد، وفي مجال السماح لأعداء الإسلام والمنحرفين فكرياً وخلقياً والتمكين لهم، فقد استحوذ هؤلاء على معظم المناصب والأماكن الحساسة في البلد، بل لقد أصبح من ضرورات توظيف الإنسان في مركز حساس أن يثبت عدم التزامه الشرعي، حيث تحول الالتزام الشرعي إلى صفة قادحة فيمن يستلم تلك المسؤوليات، وذُكِر من القصص في ذلك ما تحول إلى ما يشبه الطُرَف والأساطير.

وفي الوقت الذي مُنِع فيه المصلحون عن مخاطبة الأمة، فقد فتح الباب على مصراعيه للمفسدين في وسائل الإعلام، ففي الوقت الذي تمنع فيه المجلات الإسلامية، سمح للمجلات الهابطة والساقطة بغزو البلد وتخريبه، وهكذا بالنسبة للتسجيلات الإسلامية، ومحلات الفيديو، بل لقد دعمت الدولة من خلال المتنفذين من الأمراء وحاشيتهم كل أشكال الفساد من دعارة وخلاعة ومخدرات وخمر ولواط وتحلل وانحراف بل وحمت أصحابها من كل أشكال العقاب، والحكايات في هذا الميدان يشيب لها الولدان، وتصور أن لديك آلاف الأمراء كل أمير يستطيع أن يستورد ويوزع ويبيع ويحمي من يريد فكيف تريد للبلد أن ينجو من الهلاك دون الأخذ على يديه.

بالإضافة إلى ما سبق سعت الدولة إلى حل جذري لتلك القضايا، وذلك من خلال تغيير المناهج التعليمية، حتى ينعزل الطالب عن ارتباطه بالعقيدة والدين، ولا يفرق بعدها بين إسلام وكفر، أو بين سنة وبدعة، ويتحول إلى بهيمة لا تبحث إلا عن إشباع غرائزها.

بقي أمر واحد وهو الحديث عما يسمى بـ«هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، ما هو وما هي حقيقته.

حقيقة هذه الهيئات أنها جهاز قمعي قام الملك عبد العزيز بإنشائه بعد البطش (بالإخوان). كان الإخوان، أفراداً وجماعات، يمارسون الإحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الملك عبد العزيز نفسه، وبقية الأمراء والمتنفذين بطريقة خشنة فظة. وكانت مسائلاتهم لا تقتصرعلى السلوك الفردي لعبد العزيز وأسرته وأعوانه مثل إضاعة الصلوات، وإسبال الثياب، وإطالة الشوارب، بل تعدت ذلك إلى المحاسبة الكاملة لعلاقته مع الأنجليز والدول المجاورة، ولما كان يفرضه من الضرائب والمكوس المحرمة، ولمحاولته إبطال الجهاد والإنحراف بالدولة إلى وجهة إقليمية عنصرية منتنة، وغير ذلك كثير. ومن البديهي أنهم كانوا يحتسبون على أفراد العامة، والجماعات وأهل القرى، بنفس الطريقة الفظة الغليظة التي زادها قبحاً قلة فقههم، وسطحية فكرهم، وتكفيرهم للشيعة والصوفية، مع جهلهم التام بالقضايا الخلافية، وأداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم تجنبهم لمحاذير التجسس واختراق حرمات البيوت وخصوصيات الناس.

بعد البطش (بالإخوان) استغل عبد العزيز الفرصة وحرك دوائر واسعة من أفراد الشعب إلى الشكوى من تعسف القائمين على الإحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تمكن من إقناع المشايخ بضرورة «ضبط الأمور»، وإناطة هذه الشعيرة الكبرى بهيئة رسمية تشرف عليها الدولة، بواسطة المشايخ طبعاً! سقط العلماء والمشايخ في الفخ، لاسيما أنهم أصدروا الفتاوى التي اعتمد عليها عبد العزيز في قتل (الإخوان)، كما أصبحوا يصدرون الفتوى تلو الفتوى التي تزعم أن محاسبة (ولي الأمر) لا تكون إلا سراً، وأن أمره ونهيه على طريقة (الإخوان) تفتح أبواب الشر والفتنة!

طبعاً بقيت هذه الهيئات مطلقة اليد في التعامل مع أفراد الشعب: تضرب الناس بالعصي، مذكرة بالجلاوزة من أهل النار الذين تنبأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بوجدهم في أمته، وتتسور الجدر، وتقتحم البيوت ــ ماعدا قصور الأمراء والمتنفذين بطبيعة الحال ــ وغير ذلك من أعمال التجسس المحرم. ثم عمل سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض مؤخراً إلى تحويلها إلى جهاز تجسس خالص لخدمته شخصياً، وفرض فيها عدداً من الموظفين المدربين في المخابرات، وهو يسعى إلى أن يجعلها تؤدي دوراً معاكساً لما يراد منها، وهو تشويه الإسلام.

هذا هو واقع الهيئات، هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، فهي بذاتها منكر، يجب إزالته. وتقوم مكانها حينئذ، بإذن الله، جماعات وأحزاب وكتل ومنظمات جماهيرية، لا دخل للدولة في إنشائها أو الترخيص بها، كما سنفصله في كنابنا: «التعددية السياسية في الإسلام». وذلك بالإضافة إلى ما هو من صلاحيات الدولة ومسؤولياتها: قضاء الاحتساب، وأجهزة الشرطة المدربة والمعدة إعداداً جيداً، وبرامج التثقيف والتربية والتعليم.

فهذا واقع النظام إذاً: برنامج متكامل لحرب الإسلام في المسجد والسوق والمدرسة والتلفاز والمذياع والمجلة والجريدة وعلى مستوى الفرد والجماعة والمجتمع والدولة، برنامج لمسخ الأمة وعزلها عن دينها وحضارتها.

نحن لا نريد ممن يخالفنا أن يثبت أن النظام يدافع عن الإسلام والدعوة ويحميها فذلك مستحيل، بل نريد منه مجرد أن يثبت أن وضع النظام مع الدعوة هو مجرد تقصير وعجز! ونحسب أننا أقمنا الحجة في أن حرباً غير معلنة قائمة ضد الإسلام والدعوة والدعاة في بلاد الحرمين. فكيف تبقى شرعية بعدئذ لمن نقض شعائر عظيمة مثل شعيرة الجهاد وحماية الثغور وحارب الدعوة وحمى الربا والفساد؟!