إنتصـــــــــــــــار الـشـــيـــــخ ©
كنت و مازلت من المعجبين بشخصية الملك السعدي "محمد الشيخ" الذي يستحق تقديسا فعليا لا مزايدة و لا مراء فيه.
فهذا الملك السعدي كان يعايش فترة قوة و ازدهار و توسع الامبراطورية العثمانية و يعاصر سلطانها الذي لا يقهر "سليمان القانوني".. ذلك أنه لما استتب أمر المغرب "لمحمد الشيخ" جاءه رسول الامبراطور العثماني يقطع البحار حاملا كتاب التهنئة بالمُلك و ملتمسا من المَلِك السعدي أن يتم الدعاء للامبراطور العثماني على منابر المغرب وأن يكتب اسمه على عملة المغرب و سكته..
لم يستسغ "محمد الشيخ" هذه الإهانة الصارخة التي تطلب منه ان يكون فقط ظلا باهتا للامبراطور العثماني ..
و لما طلب الرسول التركي جواب الملك المغربي عن هذه الرسالة الامبراطورية أو بالأحرى الأمر الامبراطوري.. كان جواب محمد الشيخ : "لا جواب لك عندي حتى أكون بمصر إن شاء الله وحينئد أكتب لسلطان القوارب "...
جواب مليء بالشموخ و الأنفة و ما هما بغريبتين عن الأجداد..
"فمحمد الشيخ" هذا كان يستصغر كثيرا هذا الامبراطور العثماني و ينعته تارة "بسلطان الحواتة" (صيادي السمك) وتارة أخرى "بسلطان القوارب".. لأنه كان يرى أن قوة الامبراطورية العثمانية تكمن في اساطيلها لا في رجالها..
خرج هذا الرسول التركي مذعورا لا يلوي على شيء و يحث المسير الى عاصمة العثمانيين وهو يرى هيبة امبراطوريته تُمَرَّغ في التراب المغربي .
و لما علم "سليمان القانوني" بما كان، أمر بتجهيز العساكر والاساطيل والجند من أجل غزو المغرب.. وبعد محاولات غزو لم تؤت أكلها، قام بعض مستشاري البلاط الامبراطوري ونبهوا السلطان العثماني بأن ملك المغرب تكفي حفنة من المرتزقة و المتآمرين لقتله و الاتيان برأسه..
و هكذا كان، فقد نجح التآمر بطرق تعددت فيها الروايات لكن النتيجة كانت استطاعة بعض الاتراك التفرد بالملك السعدي و قتله و حمل رأسه الى عاصمة الامبراطورية العثمانية..
فالتآمر في اغلب الاحيان مضمون النتائج.. و لكن ظل رأس الملك السعدي المعلق بتركيا يمنع الاتراك من دخول المغرب.. فرغم مقتله ظل المغرب عصيا ولم تسجل أية محاولة لغزوه فيما بعد.. فكان بحق ملكا مغربيا عالي الرأس حياة و موتا ..
و قد انتقد بعض المؤرخين موقف "احمد الشيخ" الذي كان يقول : " لابد لي أن أغزو مصر و أخرج الترك من أجحارها ".. فاتهموه بأنه متهور طائش يدخل مغامرة غير محسوبة مريض بجنون العظمة وقصير النظر لأنه لم يستطع أن يدرك موازين القوى و هو يواجه امبراطورية عثمانية اكتسحت دولا أوربية، و أساطيلها تجوب البحار طولا و عرضا و كل ملوك اروربا تخطب ودها عبر المعاهدات و الهدايا، و كل انواع التزلف و الانبطاح.. و عزوا كل هذا الى البداوة المتأصلة في الملك السعدي..
و هي انتقادات لعمري تجانب الصواب و تعوزها النباهة و تفتقر للحس الانساني قبل النقدي.. و إلا كيف لم تجتح قوات الامبراطورية العثمانية المغرب السعدي و هي في اوج عزتها و جبروتها ؟.
ثم ألم يكن "محمد الشيخ" أول ملك استشهادي في معركة الكرامة ؟ حتى أن كل كتب التاريخ تذكر أن "محمد الشيخ" كان يستظهر كل اشعار المتنبي و يحاجج و يناظر أكابر علماء عصره ، بل و الاهم من هذا كله أنه كان دائم الترداد لهذا البيت :
الناس كالناس و الايام واحدة . . . و الدهر كالدهر و الدنيا لمن غـلبا
و كأني بمحمد الشيخ يريد أن يثبت أن الاتراك كباقي الناس دانت و خضعت لهم الدنيا بالغلبة لا بالاستحقاق ..
نَعَم مَلِك يعيش بين ضلوعه الشاعر "المتنبي" و يردد دائما هذا البيت الطافح بالانفة و العزة لا يمكن أن يكون عبدا لإمبراطورية أخرى..
و أذكر و نحن في مأدبة هذا السمو أن أحد الفقهاء المعارضين والمعاصرين "لمحمد الشيخ" سئل مرة : " ألا تخشى من هذا السلطان؟" . فأجاب : " إنما الخشية من الله ، و مع هذا فالماء و القبلة لا يقدر أحد على نزعهما و الباقي متروك لمن طلبه " ..
نَعم ملك بهذا الحجم لا يمكن أن تعايشه إلا معارضة بهذه القوة.. ثم أليست عزة الحاكم من عزة أهله ؟ .
يبقى فقط أن نقول أن "محمد الشيخ" كان يدافع عن أنفة تتجاوز حدود المغرب و إمكانياته.. لكنه كان يملك شموخ بلده و أهله في وقت كانت فيه الشام والحجاز وغيرها حديقة عثمانية..
أعرف أن تاريخا بهذا العطاء لا تستطيع الأقزام أن تطمسه ..
طابت أوقاتكم .
__________________
|