عرض مشاركة مفردة
  #24  
قديم 23-08-2006, 03:57 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

النخب القومية .. جمود في الخطاب و استفزاز للمشاعر

لم تكن النزعة القومية معروفة ، قبل عدة قرون ، بل كانت الصفة (المناطقية) التي تهم سكان منطقة ، في مكان ما هي التي تحتم شكل الأداء المدني لسكان تلك المنطقة وقياداتهم ، وكانت سعة المنطقة التي تمارس سيادتها على مساحة معينة ، تزيد وتنقص وفق أثر الصراعات العصبية بين العائلات الحاكمة وازدياد قوتها أو اختفائها ، خاضعة لامتداد نفوذ غيرها .

وكانت القوة (الكاريزمية ) تستمد من تبرير ديني ، أو تفصح عن تبجح علني بقوتها .. وهذا النموذج ساد في عصر الطوائف في الأندلس ، كما ساد في عصر الأتابكة ، حيث كان كل أمير يدعي أهلية حكمه ووجوب طاعته من الجميع ، كما أن الغزاة استمرءوا تلك الخاصية ، في التماهي الديني و الطائفي ، كما حدث في الغزو المغولي ، حيث تم اعتناق الإسلام فيما بعد ، لتسهيل مهمة سيطرة الغزاة على الشعوب المحتلة أراضيها ، حيث تتفوق النزعة الدينية على غيرها في تمرير مبررات خطاب السيطرة . وقد حاول نابليون بونابرت استخدام هذا الأسلوب في غزوه لمصر ..

لقد مهد مجموعة من فلاسفة التاريخ ، مثل الإيطالي (فيكو) في تفضيل العنصر الأوروبي ، ووجوده كمركز لحركة التاريخ في العالم والنظر الى بقية أبناء العالم ، على أساس أنهم صنف أدنى و أقل أهمية من الأوروبيين ، مما دفع الى تحريض أبناء العالم في البحث عن خصائصهم التاريخية والمفاخرة بها كرد فعل ، مما فرش الطريق الأيديولوجية لتصاعد النزعة القومية ..

كما أن الصراعات التي كانت تتم بين دول و شعوب تدين بنفس الدين وأحيانا نفس الطائفة ، الى إرجاع أسباب ذلك الصراع لنوازع عرقية ( قومية) .. وهذا النموذج من الصراعات كان منتشرا في أوروبا إضافة الى مناطق واسعة من العالم ومنها منطقتنا ..

وعندما برز فلاسفة أوروبيين مهدوا لوحدة الدول الأوروبية ، معتمدين النزعة القومية (فيخته في ألمانيا ) ، الذي استخدم بسمارك أفكاره لتعبئة الألمان لقيام الوحدة ، وحدث ما حدث في وحدة الألزاس واللورين في فرنسا الخ .

ولكن الملامح التي رافقت تفسخ الدولة العثمانية ، واستقلال دول مثل بلغاريا واليونان وألبانيا و غيرها من دول أوروبا ، هي ما جعلت الفكرة القومية ملاصقة و محاذية لفكرة الاستقلال .. وهذا ما استنبطه الشباب العربي ، خصوصا أولئك الذين بعثهم محمد علي باشا لطلب العلم في فرنسا و ما تلاها من بعثات من مختلف الأقطار العربية ، إبان الاحتلال الذي تلا انسحاب الأتراك ، فتكونت نخب ذات نزوع قومي التقت مع تلك التي تكونت قبيل زوال الحكم العثماني ..

فكان خطابها الأدبي بمختلف أشكاله ، شعرا ونثرا ، يدغدغ المشاعر القومية ، فالتف حوله أبناء العرق العربي ، بمختلف دياناتهم و طوائفهم ، وابتعد عنه الإسلاميون والذين حزنوا بشدة على زوال الحكم العثماني ، كما عارضه أولئك الذين آمنوا بالمعتقدات الماركسية ، وأبناء الإثنيات العرقية الأخرى في مختلف الأقطار العربية ..

رافق تكون المشاعر القومية في بداية القرن العشرين ، حدثين سياسيين هامين ، وبالذات بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ، وهما وعد بلفور ، واتفاقية سايكس ـ بيكو ، كما تم تخلي الدولة العثمانية عن تلك المناطق العربية ضمن اتفاقيات نهاية الحرب ، مما جعل الشعور بالترحم على دولة الخلافة العثمانية ينحسر ويتراجع ، لحساب المشاعر القومية .

لقد تولى قسم من النخب القومية ، مهام ضمن حكومات الانتداب الفرنسي والبريطاني ، وكانت تلك النخب أو قسم منها على صلة بقوات الانتداب قبل الحرب العالمية الأولى ، مما جعل وصفها أمام الناس ، لا يخلو من تلوث لدورها وهذا مما جعل خصومها ، يكيلون لها أسوأ الصفات ويحملونها ما يجري للأمة ، لا بل ويحملونها مسئولية انهيار الإمبراطورية العثمانية ..

إن الأجيال التي تلت ذلك الجيل الذي رافق سقوط الإمبراطورية العثمانية ، طورت في خطابها ، بما يتناسب مع ضراوة فعل الاستعمار ، فبرزت أجيال تفلسف لتوسيع دائرة العداء و المطالبة بالتحرر ، فوضعت الإمبريالية والصهيونية والرجعية ، بصف واحد ، وأخذت تصنف الناس والمثقفين وغيرهم حسب اعتقادها ، هذا رجعي وهذا عميل وهذا كذا .

لقد التقطت بعض النخب العسكرية ، تلك الإشارات و أضافتها لرصيدها (الكاريزمي) .. وكانت ما أن تنجح بانقلاب عسكري ، حتى تزيد من وتيرة الخطاب ، وتزيد من سعة أعداءها و خصومها ، حتى أصبحت تعادي مثيلاتها بالخطاب في أقطار عربية أخرى ..

تكونت في تلك الفترة ثلاث كتل لبث الخطاب القومي ، أحدهما في مصر والثانية في سوريا والثالثة في العراق ، وكانت تتبع تلك البؤر الثلاث شرائح من المثقفين العرب ، وتتعاون معها بعض أنظمة الحكم العربية في السودان واليمن والى حد ما الجزائر(فيما بعد) .. في حين انشغلت مناطق عربية في نضالها من أجل التحرر ، في مناطق الخليج العربي و إفريقيا ..

ولكن لم يحدث أن انسجمت البؤر الثلاثة (مصر وسوريا والعراق) في أدائها أو مواقفها ، بل بالعكس كانت في داخلها على خلاف مستمر ، مما أضعف الخطاب القومي بمحاوره الثلاثة المذكورة ، في حين توحدت تلك الخطابات باستعداء أطراف عربية أخرى ، مما جعل وحدة العداء بين أطياف واسعة ، عربية ودولية وهذا مهد الى حالة أشبه بالتجمد في الخطاب و توقفه عند إثارة الهمم الطيبة والصبغة الوجدانية ، وضياع هيبته في خضم السلوك السيئ الذي كان يتنافى مع روح الخطاب ..
__________________
ابن حوران