عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 29-09-2006, 05:55 AM
ليلى محمود البدوى ليلى محمود البدوى غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2006
المشاركات: 10
إفتراضي

وجذبتنى الأنوار البراقة فى ملهى على شكل سفينة قريبا من محطة شمباسى فاتجهت نحوه وبجوار كشك التذاكر وجدت ثلاث فتيات يرتدين فساتين سواريه وصدرهن العارى يبرز كل مفاتنهن ..وتطلعن إلى وجهى .. ووجدت واحدة منهن تعرف الإنجليزية فشرحت لى نظام السفينة ..

وحجزت " كمرة " بألفين فى الدرجة الأولى .. وصعدت مع الفتاة إلى الأدوار العليا ..وفى ممشى السفينة الدائرى .. فتحت لى بابا صغيرا .. وأصبحنا وحيدين فى غرفة صغيرة أنيقة على شكل الكاميرا فى عابرات المحيط ..

وكان لابد أن نشرب شيئا وكل كأس بألفين ..

وسألت الفتاة عن الشراب الذى ترغبه فرفضت وقالت إنه لاداعى لأن تشرب هى .. وتحت الحاحى قبلت أخيرا .. وطلبنا كأسين من الويسكى .. ولاحظت ساسا بعد أن فرغنا الكأسين .. أنى شارد الذهن ..

فسألتنى :
ـ ما بك ..؟
ـ لا شىء ..
ـ ألا أروقك ..؟
ـ بالعكس أنت فتنة فى النساء ..

وكان الموقف الطبيعى يقتضينى أن أعانقها وأشرب من رحيـق شفتيها .. ولكننى جلست جامدا ولم تبد منى أية حركة ..

ولما حركتنى بسؤالها .. اكتفيت بأن مددت ذراعى الأيمن اليها وطوقتها .. وأخذت أمسح بيدى على ذراعيها .. فاستراحت إلى هذه الحركة وأخذت تديم النظر إلى وجهى الجامد .. فابتسمت وطلبت من الساقية كأسين آخرين..

وفى خلال الشراب حدثتها بصراحة عن الحقيبة وما حدث من القبض على صاحبها فى المطار ..

ورأيت سحنتها تتغير .. كأنما أصابتها رجفة .. ثم عادت إلى امتلاك أعصابها ..

وسألتنى :
ـ فى أى فندق نزلت ..؟
ـ يوكاهاما .. غرفة 703
ـ إنه بعيد جدا عن هنا ..
ـ نصف ساعة بالسيارة ..
ـ لا .. أكثر من ذلك .. اذهب فى الحال وابعد هذه الحقيبة عن غرفتك ..
ـ وأين أذهب بها ..؟
ـ أترى هذه الترعة .. القها فيها .. أو فى أى مكان من السهل أن تتخلص منها .. لأن هذا يسبب مشكلة ..
ـ ربما يكون الرجل مهربا .. وفيها جواهر

فضحكت .. وقالت
ـ لا داعى لأن تمزح .. أسرع وتخلص منها ..
ـ ماذا تصورت فيها ..
ـ ديناميت .. خرائط .. تصور معسكرات الأمريكان وأماكن احتلالهم فى طوكيو وغيرها .. أنت سائح مسكين .. وستعدم دون ذنب ..

فارتجفت ..
وسلمت عليها وهرولت إلى الخارج ..

***

وركبت تاكسى إلى الفندق وقال لى موظف الاستقبال بأدب زائد .. وأنا أتناول منه المفتاح ..
ـ هل يمكن .. أن تنتظر لحظة يا سيد بدر الدين ..
ـ لماذا ..؟

وقد أحسست بالعاصفة تقترب ..
ـ الظاهر أنه حدث سوء تفاهم منذ القبض على كوجا فى المطــار .. يريدون فقط أن يسألوا الركاب الذين كانوا معه ..
ـ إن هذا حماقة ..
ـ إنهم حمقى هؤلاء الأمريكان ..

وقلت لنفسى أننى أكثر حماقة لأننى مراقب منذ غادرت المطار والعيون ورائى فى كل خطوة .. وأنا لا أدرى ..

وسألته ببلاهة ..
ـ وكيف عرفوا مكانى ..؟
فقال ببساطة :
ـ إن شـركة الطيران .. وزعتكم على ثلاث فنادق معروفة ..

وأدركت مبلغ حماقتى لأنى ركبت عربة الشركة .. فطوكيو مدينة ضخمة كالمحيط وكنت أستطيع أن أغوص فى أعماقها ولا يعرف أحد مكانى لو لم أركب عربة الشركة وأجعل الخيوط فى أيديهم ..

ولمحت ثلاثة رجال فى ملابس مدنية يتقدمون نحوى ببطء .. وكنت أود أن أمرق كالسهم من الباب الدوار وانطلق بأقصى سرعة ولكننى استبشعت هذه الحركة فى فندق كبير كهذا ..

وقال لى أطولهم وهو الأمريكى حتما :
ـ هل يمكن أن نلقى نظرة على غرفتك ..؟

فاستبسلت وسألته بصوت قوى ضخم فيه لهجة الاستنكار ..
ـ لماذا ..؟
ـ إن هناك حقيبة مغلوطة فلتت من المطار ..

وفى تلك اللحظة كان من السهل علىّ جدا أن أقتل أى واحد منهم لو كان معى سلاح ..

ومشينا صامتين إلى المصعد .. وفى الطرقة الطويلة تقدمتهم إلى غرفتى .. وأعطيت فتاة لطيفة من عاملات الفنـدق المفتاح لتفتح لهم الباب .. لأتفادى رعشة يدى وأنا أدير القفل ..

وفتحت الفتاة الباب ودخلوا ودخلت معهم وأنا أحس بقلبى قد توقف عن الخفقان ..وعندما توسطت الغرفة انتابنى احساس من البلادة وفقدان الحساسية عجبت له وأدركت أنه نفس الاحساس الذى ينتاب من يصعد سلم المشنقة ..

ولكن عندما وقع نظرى على الحقائب عاد إلى الإحساس بالموقف أشد وأعظم واضطربت جدا .. ثم كادت أن تفلت من فمى صرخة مدوية صادرة من الأعماق .. فقد اختفت حقيبة الرجل من الموضع الذى وضعتها فيه .. وبحثوا فى كل ركن فلم يجدوا سوى حقائبى .. وفتحتها جميعا وجعلتها تحت أنظارهم وحيوا وانصرفوا ..

وودعتهم على باب الغرفة مزهوا ..

وجلست بعد أن ذهبوا أستريح وأشرب القهوة وأنا أفكر فى الملاك الذى طار بالحقيبة فى اللحظة الحاسمة ..

ونمت نوما عميقا ..

***

وفى الصباح خرجت أتجول فى المدينة وقد كف ذهنى عن التفكير فى اختفاء الحقيبة وقد عللته بأى سبب ..ربما تكون ادارة الفندق قد عرفت الحقيبة لأنها الوحيدة التى لاتحمل بطاقتى فانتزعتها من الحقائب بسهولة وخلصتنى من شرها ..

ونسيت الأمر كلية ..

***

وفى الليل ذهبت إلى ملهى السفينة .. لأرى ساسا .. وقالت وأنا داخل عليها وقد أشرق وجهها ..
ـ جئت مرة أخرى ..
ـ بالطبع ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنى أحبك ..
ـ أوه ما أكثر ما سمعت هذا الكلام .. ولماذا تحبنى ..
ـ لأنك جميلة ..
ـ ما أكثر الجميلات فى طوكيو ..
ـ الواقع أننى عاجز عن التعبير .. لايوجـد سبب ملموس لحبى .. هناك ما هو أعظم من الجمال ومن الصفاء اللذين فيك ..
ـ هذا أحسن .. والمهم هل عثروا على الحقيبة ..؟
ـ ابدا .. لقد اختفت من الغرفة ..
ـ اختفت .. ؟

وضحكت بخبث .. وعلمت منها ما حدث .. خشيت ألا أصل إلى الفندق فى الوقت المناسب .. فاتصلت فى الحال تليفونيا بالطابق السابع الذى فيه غرفتى .. وكانت تعرف هناك فتاة من العاملات تدعى نيدا وحدثتها بأمر الحقيبة وطلبت منها أن تخرجها من الغرفة فى الحال .. وكان من السهل أن تستدل نيدا على الحقيبة لأنها الحقيبة الوحيدة التى لا تحمل بطاقة وعليها كتابة باليابانية فأخرجتها فى الحال ..

ـ وأين هى الحقيبة الآن ..؟
ـ فى مكان ما ..
ـ هل عرفت أنهم فتشوا غرفتى .. ؟
ـ أجل .. وكنت أقدر هذا ولذلك أخفيت الحقيبة ..
ـ إن هذا عمل عظيم لن أنساه لك ..
ـ لاداعى لمثل هذا الكلام ..

ونظرت إلىّ فاحتضنتها .. وأنا أقول ..
ـ لابد أن أحمـــل الحقيبة إلى العنوان الذى تركه لى الرجل ..
ـ ليس من الضرورى الآن انتظر اسبوعا ..
ـ لابد من هذا سريعا ..
ـ انتظر اسبوعا .. وسأذهب معك ..
ووافقتها على ذلك ..

***

ومر اسبوع .. واتفقنا على أن نتقابل فى محطة من محطات المترو الذى تحت الأرض .. وتكون معها الحقيبة .. ونركب من هناك إلى المكان الذى عينه لىّ الرجل ..

وفى الموعد المحدد انتظرتها .. وجاءت رشيقة جميلة وبيدها الحقيبة وأخذتها منها .. وذهبنا نضع بضعة ينات فى الآلة الأتوماتيكية .. وتناولت نيدا التذكرتين ..

وفى أثناء دورانى فى فناء المحطة المسقوف رأيت رجلا عرفته من عينه وكان هو كوجا بعينه وكان يرتدى معطفا سميكا ويضع على عينيه منظارا أسود ..وبيده عصا وعلى رأسه قبعة عريضة .. وكان مشوش الهندام غير حليق على غير ما عهدته فى الطائرة ..

وبحركة سريعة تناول منى الحقيبة وشد على يدى وهو يقول :
ـ كنت أعرف أنك ستأتى بها .. إنك شجاع .. لقد أعدت إلى قلبى .. وأقبل المترو .. فأخذها ومضى ..

***

وقلت لساسا وأنا أصعد بها سلم المحطة ..
ـ والآن أين نذهب ..؟
ـ كما تحب ..
ـ هل تذهبين معى إلى الفندق لنشكر نيدا على الأقل .. ؟
ـ فكرة رائعة ..

وفى شارع جنـزا رأيت فى كشك صغير صورة كوجا .. فى صحف المساء وكان تحتها نبأ هروب بخط كبير ..

ولما رأت ساسا الصورة ضحكت .. وضغطت على يدى ..
===============================

نشرت القصة فى صحيفة الشعب 28|4|1958 وأعيد نشرها بمجموعة قصص من اليابان من اعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2001
========================================




(2)
قصة من روسيا
القطار الأزرق

قصة محمود البدوى


التقيت " بنادية " لأول مرة بفندق أوكرانيا فى مدينة موسكو ، وكانت واقفة فى الصف أمام عاملة المقصف ، وتحاول أن تجعلها تفهم بالإشارة وبكـل وسائل التعبير ما تريده من أصناف الطعام ولم تنفع هذه الوسيلة ، فتلفتت نادية إلى ناحيتى وأشارت إلى الأطباق التى أمامى على المائدة لتأتى لها العاملة بمثـلها تماما ..

ولما تناولت الطعام من فوق الرف واستدارت ، بحثت بعينيها عن مائدة خالية ، فلما لم تجد ظهر عليها الضيق ، فلوحت لها بيدى لتتفضل وتجلس إلى مائدتى ، فجلست تأكل افطارها صامتة بعد أن عبرت لى عن شكرها بهزة خفيفة من رأسها .

وتصادف بعد ذلك ركوبنا المصعد معا وهو صاعد ونازل فى طوابق الفندق ، وكانت تفتح عينيها السوداوين على سعتهما وتحدق فى وجهى كمـا كنت أفعل مثلها فى صمت دون أن نتبادل كلمة واحدة .

وتقابلنا ساعة الظهر فى " الجوم " وكانت مع رفيقة لها فى مثل أناقتها وشبابها وحيويتها ، ومع أن رفيقتها بدت لى روسية خالصة .. ولكنهما تاهتا مثلى فى طرقات المتجر ، فقد كنا نلف جميعا وندور فى هذا التيه دون أن نهتدى إلى باب الخروج .. وكلما تقابلنا ابتسمنا ابتسامة تجمع بين المرارة والعجز ..!

وكنت كلما رأيتها نسيت ما أنا بسبيله .. وأشعر بأنى سأظل على اتصال دائم بها كلما تحركت فى قلب المدينة الكبيرة ، وأن صورتها لن تبرح خيالى أبدا ، وبدا لى جليا أنها تدعونى ولا تستطيع التعبير عن ذلك بالإشارة ولا بالكلام .

وفى صباح يوم وقفت على باب المصعد فى الدور التاسع كعادتى لأنزل إلى الطابق الأرضى وكان السهم يشير بأنه نازل .. فضغطت على النور ، ولما وصل طابقى وفتح الباب ، وجدته ممتلئا كله بالنساء من المضيفات اليابانيـات وغيرهن .. وليس فيه موضع لى .. فبقيت مكانى .. وأشرت للعاملة فى أسف .. بأن تواصل طريقها فى النـزول .. ولكنها لم تفعل وظل الباب مفتوحا ..

وسمــعت صوت نادية من الداخل يردد مع صوت العاملة :
ـ تعال come .. بالإنجليزية ..

فدخلت وسط هؤلاء الفتيات وأنا شاعر بالخجل ، وظللن يضحكن ويزقزقن كالعصافير حتى وصلنا إلى الأرض ..
وخرجت من الفندق بصحبتها فى هذه المرة ، وأصبحنا نتجول فى المدينة معا ، وسرنى أنها تجيد الإنجليزية ، فقد تعبت من الحديث بالإشارة وأنها ذاهبة إلى " ليننجراد " مثلى .

قالت لى أنها " فنلندية " ومسلمة وتشتغل مدرسة علم نفس وجاءت إلى روسيا فى عطلة دراسية لتـزور صديقة لها فى طشقند .. بدعوة منها .. وبعد أن توافر لها المال ..

وحدثتها بأننى التقيت منذ أكثر من ثلاثين سنة ، على التحقيق ، بسيدة "فنلندية " مسلمة وشابة مثلها .. على ظهر باخرة رومانية .. ونزلنا فى "استانبول " .. وقضينا ليلة جميلة على ضفاف البسفور ..

وسافرت هى إلى " فنلندا " .. على أن تكتب لى .. وأعطيتها عنوانى فى كونستنـزا ، وبودابست ، وفينا ..

ولكن بعد وصولى بيومين اشتعلت الحرب فجأة فى أوربا عام 1939 ، فعدت سريعا إلى مصر ، وانقطع بيننا كل اتصال .. ولا شك أنها قدرت موتى كما قدرت موتها ..

وقالت " نادية " بعذوبة :
ـ قد يكون تقديرك مخطئا ..
الرد مع إقتباس