ساءني انسحاب الأخ (أحمد علي) بالرغم من اختلافنا في أمور كثيرة. فالاختلاف سنة الله في خلقه، ولولا الاختلاف والتنوع والتعدد لما عمرت الأرض، ولما قامت حضارة. بالإضافة إلى ما تمتع به في حواره من هدوء وعزو كل ما ينقل إلى مصادره. وأرجو أن تتبدل الظروف فيعود إلى إطلالته مرة أخرى.
ولا يمنعني ذلك من التعقيب على آخر ما كتب في هذا الموضوع. فأقول وبالله التوفيق:
(الرسوخ في العلم) لا يعني مطلقاً الإصابة التامة، هذا يكون لله وحده، وفي اعتقادنا أن الأنبياء والمرسلين (وهم المعصومون من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ومن النسيان في أمور التبليغ) يجتهدون في شؤون الدنيا، ويكون اجتهادهم لتعليم المؤمنين، فهم القدوة والأسوة، وحجة من الله على كماله وحده، كما حصل لموسى (ع) والرجل الصالح (انظر سورة الكهف)، وكما وقع لسليمان (ع) والهدهد وبلقيس، وكما وقع لخاتم النبيين (ص) في أكثر من موضع من جملتها الحكم في أسرى بدر، وتأبير النخل إلخ. ولا يقدح في نبوتهم ولا عصمتهم تبيان الله تعالى لحكمه فيما اجتهدوا. وهم مع ذلك كله (راسخون في العلم). وأما أن النبي سئل عن شيء من القرآن فلم يجب ففي كتاب الله نفسه {ويسألونك عن الروح قل: الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} فهو لا يعلم الغيب، إلا ما علمه الله تعالى. وسئل (ص) عن الساعة فأجاب (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) وبين أماراتها، لأنها من أمور الغيب التي اختص الله بها نفسه ولم يطلع عليها أحداً من خلقه. ولم يقل أحد من أهل الإسلام أن هذا الحديث، وتلك الإجابة تقدح في علم رسول الله (ص) أو تبليغه عن ربه، أو تجرح منزلته في نفوس المؤمنين. بل كانت هذه الإجابات من حجج الله تعالى على عبودية الخلق لله ولو كانوا في مرتبة خاتم النبيين (ص) والله عصمنا من عبادة الأشخاص، مما وقع فيه اليهود والنصارى، فقال الأولون: (عزير ابن الله) وقال الآخرون: (المسيح ابن الله) والعياذ بالله تعالى.
والاجتهاد في استنباط الحكم، أو في فهم الآيات والأحاديث هو من أخصص خصائص الراسخين في العلم، لأنه ميدانهم وليس ميدان غيرهم.
وقولك (يصعب علي التصديق بأن الله أنزل هذا القرآن للناس ثم يخفي تأويله) تساؤل عاطفي، لا علاقة له بالبحث الموضوعي، لأن القرآن كما في نص الآية في آل عمران آيات محكمات وأخر متشابهات، والمتشابه يبنى فهمه على المحكم، وأرجو أن تعود إلى السيوطي في (الاتقان في علوم القرآن) ففيه مزيد إيضاح لا حاجة إلى تكراره هنا. ذلك لأن الله لم يخفِ تأويل آياته، وإنما جعل فهمها من خلال المأثور عن النبي (ص) فيما سأله الصحابة فأجاب، أو فيما بادرهم بتفسيره. ومن نعم الله تعالى أن الصحابة لم يسألوا عن كل شيء، وأن النبي (ص) لم يبادرهم بتفسير كل آية، وإلا كنا ملزمين بمصطلحات ومفاهيم ومعارف عصرهم، بينما القرآن لكل زمان ومكان في أحكامه ومعارفه وإعجازه. ومن ذلك ما يعرف اليوم بالإعجاز العلمي، فالصحابة (رض) سلموا بكل ما في الكتاب تسليماً مطلقاً، ولكن هل كانت معارفهم ومعلوماتهم كافية ليفهموا تفاصيل ما ورد من وصف القرآن الكريم للرحم مثلاً، أو للصعود في الجو؟
أما قولك (أما القول أنهم "يجتهدون وقد يصيبون وقد يخطؤون" فهذا يناقض وصفهم ، فلنرجع للغة ونفهم ، أم أنك تريدنا أن نرجع للغة عندما تريد تخطئتنا وأن نجتهد عندما لا تعجبك حجتنا؟) فسامحك الله، ولن أجيب عنه، لأنك أبعدت الشقة. وما جئت به من الآيات السابقة (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل الله إليك وما أنزل من قبلك) يرد عليك، إذ يؤيد ما ذهبنا إليه من (الإيمان المطلق) وليس (المعرفة المطلقة).
كما أبعدت الشقة في استشهادك بقوله تعالى: {قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتداليك طرفك} ثم جمعت بينها وبين قوله تعالى: {ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} فجعلتهما رجلاً واحداً. وهو تمحّل في اللغة، لا يؤيده أسلوب العرب، ولا مأثور التفسير.
أما الفقرتين الأخيرتين، فليتك لم تكتبهما بيمينك، لأنهما عليك لا لك، إذ لا يكفي في الدفاع عن أخطاء الحوزة رمي ناقديها بالردة، مع استغرابي استخدام مصطلح (الردة) وفيه ما فيه من أحكام معروفة لك ولغيرك لوصف الذين يستنيرون، وهو مصطلح تبتعدون عن استخدامه للذين تسمونهم (مستبصرون) ككاتب (ثم اهتديت) الذي افترى فيه على الله ورسوله والصحابة والأنصار أمهات المؤمنين وكل عالم عامل في تاريخنا، فملأه سباباً نهى عنه الإمام علي بن أبي طالب (رض). ومع ذلك لم يسمه المسلمون الذين قدح في دينهم (مرتداً) بينما تسارع أنت لوصف الموسوي بالمرتد؟
ولم أرك تذكر (الخالصي) فهل امتننت عليه فاستثنيته من (الارتداد).
أما سؤالك لي عن معرفتي بتاريخ تشيع (الفرس) فللأسف الشديد أنا أعلم علم اليقين متى تشيع الفرس، وأعرف كيف تم ذلك، وأعرف أموراً كثيرة لا أجد مصلحة في نشرها، وما ذهبتَ إليه في ردك يتعلق بشيوع التشيع الاثني عشري في إيران اليوم، والذي ذهبتُ إليه قصدت به دور (الفرس) في بذر التشيع الإمامي الاثني عشري في عقيدته وأقواله التي خالف فيها ما عليه جمهور المسلمين.
ويسوؤني استخدام ألفاظ كالناصبة والرافضة مما يستخدمه الآخرون، لأنني أفهم النصب والرفض موقفاً قد يستتر صاحبه وراء ادعائه حب آل البيت وهو من أكثر الذين يسيؤون إليهم، كما فعل غلاة الذين ادعوا حب عيسى بن مريم (ع)، وكما يفعل أصحاب البدع المغلظة من الجمهور، وكما يفعل الوضّاعون من القصّاص بحجة الكذب له (ص) وليس الكذب عليه.
وأما استشهادك بقوله تعالى {بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا} فأمر يصدق على الذين أغلقوا أعينهم وآذانهم وأفهامهم، ولم يروا أمامهم إلا ما يقوله ساداتهم وكبارهم ولو اضطروا إلى تعطيل اللغة والنص والعقل. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أما الأخ (حلم الوحدة)، فقد جعل إجابته موقفاً شخصياً. وعلى (أحمد الكاتب) أن يرد عليه ما رماه به.
ومن المؤسف أن بعض الصفحات على (الإنترنت) قد تخصصت في نشر أسماء وقصص الذين تحولوا (ولا أقول ارتدوا – كما فعل أحمد علي) إلى المذهب الإمامي الاثني عشري، مع التوسع في النيل من القرآن والحديث والصحابة والتاريخ الإسلامي، ولم يلحظ الذين يشجعون هذه الصفحات ويكتبون فيها أن فكر الجمهور ومنهجهم يجيز لهؤلاء (المستبصرين الجدد) التحرك بحرية في مدنهم وقراهم، بينما يخفي المستنيرون والمتحولون من الإمامية ما وصلوا إليه من قناعات - داخل المذهب أو أدت إلى تحولهم لغيره - بسبب الاضطهاد، فقومهم يضيقون بهم، لأنهم لم يعتادوا قولاً مخالفاً، ولأنهم يبيحون لأنفسهم التعرض لمن اختار منهجاً آخر، ولو داخل الإطار نفسه، كما تواترت الأخبار من إيران عن اضطهاد رجال كانوا حتى عهد قريب (قرة عين الإمام) كالشيخ المنتظري المحجور عليه بسبب مواقفه السياسية وبعض آرائه تجاه تطبيق شعار (ولاية الفقيه)، وكما وقع من هجوم وتهجم على السيد/ محمد حسين فضل الله بسبب آرائه المعتدلة من الصحابة وعلاقتهم ببني هاشم وآل بيت النبوة، وكتب أحد (المستبصرين المسترزقين بالخمس) مجلدات في الرد على اعتدال (فضل الله) تجاه حادثة كسر الضلع المختلقة والمفتراة على علي وفاطمة وعمر (رضي الله عنهم أجمعين). ومن ضاق صدره بمجتهديه هل يفسح المجال لمخالفيه؟
|