مرحلة 1920- 1940 ( العهد الملكي )
لاشك أن ثورة 1920 أسهمت في تغيير استراتيجية الإمبريالية البريطانية الخاصة بالعراق من استعمار مباشر إلى استعمار غير مباشر، وذلك خلال تأسيس المملكة الهاشمية في العراق العام 1921، بقيادة الملك فيصل، وتكوين الدولة العراقية الحديثة، في ظل تراجع الحركة القومية العربية عن تحقيق أهدافها وبخاصة هدف الوحدة العربية، حين رضيت بالكيانات القطرية المشرقية (العراق، سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين)، التي تأسست على قاعدة اتفاقات سايكس بيكو الانكلو - فرنسية، لم تحقق كل الأهداف الفعلية للمسألة الوطنية العراقية حتى بطابعها القطري. ذلك أن الملكية في العراق، التي تقف على رأسها ملك عربي هاشمي، كانت في جزء منها صنيعاً بريطانياً، وفي الجزء الآخر نتاج الانتخاب الشعبي، وحتى حكومة فيصل العربية التي أقامت النظام الملكي الدستوري، وأنشأت مجلساً نيابياً منتخباً، ودستوراً للبلاد، عملت على المحافظة على المعادلة الصعبة أي " المحافظة على هيمنة النفوذ البريطاني " من جهة، و" ضرورة إرضاء غالبية السكان والعناصر الوطنية بوجه خاص ". من جهة ثانية لقد كان لثورة العشرين أهمية كبرى في بداية تحقيق تماسك المجتمع السياسي للعراق، ليس فقط من خلال التقارب والترابط السني - الشيعي، واندماج الشيعة في الجسم السياسي العراقي " بل أيضاً بحل ناجح لنزاع تاريخي كان كامناً في أساس الكثير من الانقسامات المثيرة للاضطرابات في المجتمع العراقي، الا وهو النزاع المزدوج بين العشائر والمدن النهرية من جهة، وفي ما بين العشائر نفسها من جهة ثانية، حول الأراضي السهلية المنتجة للغذاء على ضفتي دجلة والفرات "[12] .على الرغم من أن حكومة الملك فيصل ذات الأصول غير العراقية، (بحكم أن الموطن الأصلي لفيصل هو الحجاز )، كانت مدينة للاستعمار البريطاني، الذي أصبح يحكم العراق في مرحلة الانتداب بواسطتها، إلا انهت عملت على بناء المؤسسات الدستورية، والعمل على تأسيس جيش محترف للحفاظ على أمن العراق الداخلي والحفاظ على حدود العراق وتأمين المصالح البريطانية وأرسائها على اساس مضمون .[13] وفي ظل حكومة " النقيب" تم توقيع المعاهدة الانكلو عراقية غير المتكافئة بالإجماع في سنة 1922 والتي شملت المادة (7) منها تعهد بريطانيا بمساعدة الجيش العراقي[14] . وقام " السادة " بتشكيل حزبهم المسمى " الحزب الحر العراقي " الذي يضم " السادة " من شيوخ العشائر وكبار الملاك والعائلات الثرية، حيث كان مبدأه الرئيس هو " القبول بالعلاقات مع بريطانيا العظمى على أساس المعاهدة ". وصار الضباط الوطنيون الشريفيون، ومعهم رجال الملك يلقون على كاهل هذا الحزب وعلى كاهل " النقيب " وزر أي شيء في المعاهدة ينتقص من استقلال البلاد " [15] .وفي عام 1924 تم توقيع الاتفاقية العسكرية والتي نصت على انه بعد 4 سنوات سيتحمل الجيش العراقي مسؤولية الحفاظ على الأمن الداخلي والدفاع عن أمن العراق من الاعتداءات الخارجية مع احتفاظ بريطانيا بحق التفتيش على الجيش ووجوب استشارة المندوب السامي في توزيع وتحركات الجيش . ولم تكن الأحزاب السياسية التي تشكلت في تلك المرحلة التاريخية من الحكم الملكي - الدستوري، تلعب دوراً أساسياً في تنظيم الشعب وإعداده لممارسة الديمقراطية، التي هي حكم الشعب بالشعب وَللشعب، بل أن هذه الاحزاب كانت أحزاب نخبة منبثقة من تلك الفئات الاجتماعية الآنفة الذكر، وتمثل مصالحها الطبقية، ولم تكن ركناً أساسياً من أركان الديمقراطية، تحول الطاقة المشتتة للشعب إلى طاقة سياسية فاعلة في عمل المؤسسات الدستورية والحكومية، وبخاصة على صعيد البرلمان. وقد حدثت مشكلة بين الحكومة البريطانية والحكومة العراقية عندما ارادت الاخيرة تطوير الجيش وتوسيع تشكيلاته وأشارت عام 1927 إلى الحكومة البريطانية بضرورة تنفيد الاتفاقية العسكرية وذلك لقرب تسلم الجيش العراقي مهامه الكاملة فعارضت بريطانيا ذلك ورفضت تطبيق قانون التجنيد العام ودعت إلى اقامة مفاوضات جديدة . ونتيجة لهذا الرفض شكل مجموعة من ضباط الجيش العراقي (كتلة الضباط القوميون) والتي دعت إلى الوقوف بوجه السياسة البريطانية والمطالبة باستقلال العراق وانضمامه إلى عصبة الامم دون قيد[16] ، وفي عام 1929 تم اصدار بيان من قبل بريطانيا يفيد إلى ان العراق سيرشح نفسه إلى عصبة الامم عام 1932 بدون شرط . وتم توقيع معاهدة 1930 التي نصت على ان مدة المعاهدة 25 سنة [17] .ومع نهاية الانتداب البريطاني في العام 1932، انضم العراق إلى عصبة الأمم وحصل على استقلاله التام وبموت الملك فيصل في العام 1933، واعتلاء الملك غازي عرش السلطة، على الرغم من عدم خبرته السياسية، وعدم تأهيله لذلك المنصب،إلى انه لعب دورا بارزا في تعزيز الدور السياسي للجيش ومناصرة الافكار القومية الداعمة إلى الحرية والوحدة العربية ،وقد تولى ياسين الهاشمي رئاسة الوزارة، علماً بأنه لا ينتمي إلى طبقة " السادة " بل هو عسكري محترف، وقاد معارك بطولية في الحرب العالمية الأولى، الأمر الذي جعله يحظى بتأييد الضباط العراقيين المنضوين في حزب العهد، والذين كانوا يؤمنون بالعروبة الجامعة في الجيش العثماني. وكانت علاقات الهاشمي مع الملك فيصل صعبة في الأعم الأغلب، ربما بسبب اندفاعاته وطموحاته نحو تأسيس الجمهورية. وقد صعد إلى رئاسة الوزارة بفضل تمرد عشائري، والتخلي عن معارضته لمعاهدة 1930، حين أصبح " مقتنعاً بأن العراق لا يمكنه العيش من دون تحالف مع بريطانيا العظمى، وأن هذا التحالف كان مقدماً من خلال المعاهدة بشروط حسنة [18]. وكان التمرد الاشوري عام 1933 أول خطر حقيقي لوجود الدولة العراقية الجديدة وقد برز دور الجيش العراقي بقمعه لهذا التمرد وظهوره كجيش محترف متمرس ، مما دفع الملك غازي إلى السعي لتطوير الجيش وتوسيعه للحفاظ على الوحدة القومية الداخلية [19].
الانقلاب العسكري بقيادة بكر صدقي في 29 أكتوبر 1936
بدءاً من عام 1931، أخذت تظهر بين ضباط الجيش العراقي حركة تذمر من الأوضاع السائدة، وطمعت هذه الحركة في فرض سيطرة الجيش على الحكومة. وساند ضباط الجيش الوزارة التي كان يرأسها ياسين الهاشمي، في إخماد تمرد العشائر في الفرات الأوسط، وقوى المعارضة السياسية. غير أن اتصال عدد من رؤساء الخلايا العسكرية ببعض قوى المعارضة، أبرزها جماعة الأهالي[20] أدى إلى قيام تنظيم سياسي عسكري قوي، نجح في القيام بأول انقلاب عسكري أطاح بوزارة ياسين الهاشمي في 29 أكتوبر 1936. لم يكن هذا الانقلاب بداية الانقلابات العسكرية في تاريخ العراق الحديث فحسب، بل كان كذلك أول انقلاب عسكري في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، وفتح الباب على مصراعيه لتدخل الجيش العراقي في سياسة البلاد. كان قائد الانقلاب هو الفريق بكر صدقي، قائد الفرقة الثانية في الجيش العراقي، وكان على صلة وثيقة، وصداقة حميمة، بحكمت سليمان، أبرز أعضاء جماعة الأهالي، والذي تمكن من ضم صديقه الفريق بكر صدقي إلى جماعة الأهالي. وكان حكمت سليمان هو الذي شجع بكر صدقي، من قبل، على شن حملته التأديبية ضد الآشوريين عام 1933، وهي الحملة التي انتصر فيها بكر صدقي، وذاع صيته كبطل وطني. واقتنع بكر صدقي، من ذلك الوقت، بإمكانية تدخل الجيش في السياسة، وبأن مستقبله ومستقبل الجيش، وتحقيق مطالبه، يتوقف، إلى حدٍّ كبير، على إسناد الحكم إلى حكمت سليمان، الذي كان حلقة الاتصال بين جماعة الأهالي والجيش [21] . ويبدو أن الهدف المشترك، لكل من بكر صدقي وحكمت سليمان، كان استخدام الجيش للإطاحة بوزارة ياسين الهاشمي.
__________________
السيد عبد الرازق
|