تابـــــــــــــــــــــــــــع
وأذكر مرة أن أحد أخوال كان يظن أن أهل السنة يقولون: "إن الله في كل مكان"، وأن الإباضية يقولون: "إن الله فوق السماء"، فأنكر علي اعتقادي أن الله في كل مكان
فقلت له: "أهل السنة لا يعتقدون أن الله في كل مكان، بل يعتقدون أن الله فوق السماء"
فقال: "لا، أنتم تعتقدون أن الله في كل مكان"
قلت له: "نحن نرد هذه العقيدة"
فلما تأكد أننا نعتقد أن الله فوق السماء، وأن الإباضية لا يعتقدون ذلك غير عقيدته على الفور
وقال لي: "نعم الله في كل مكان، وهذا هو الحق"، قلت له: "قبل قليل كنت تقول خلاف هذا" قال: "كنت أظنها عقيدة الإباضية".
وهذا حال أكثر الناس، مجرد أن يعرف أن عقيدتهم كذا يسارع إلى الدفاع عنها من غير بينة، والله المستعان.
نعود إلى صاحبنا الإباضي
قال لي: "إن الله في كل مكان"
فقلت له: "هل تعتقد أن الله في الحمام؟!!" – تعالى الله عما يقول الله الظالمون علوا كبيرا - .
فسكت هنيهة ثم قال – كالمعترض على كلامي –: "إن لم يكن الله في الحمام فإني سأذهب إلى الحمام وأشرب الخمر".
فقلت له: "هداك الله، إن الله فوق سماواته، مستو على عرشه، ومع ذلك قريب من خلقه، يعلم كل ما يكون على الأرض، ولأجل هذا يقرن الله – عز وجل – دائما علوه بالعلم
قال تعالى: "الرحمن على العرش استوى، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى"
وقال تعالى: "هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير"
ومثلها قوله تعالى: "هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم"، فقرن بين اسمه الظاهر وبين اسمه الباطن، وقد فسر النبي – صلى الله عليه وسلم – معنى الظاهر بقوله: "أنت الظاهر فليس فوقك شيء"، وفسر معنى الباطن بقوله: "أنت الباطن فليس دونك شيء"، أي فليس أقرب منك شيء، فالله قريب في علوه، بمعنى أنه يعلم كل شيء مع علوه".
فلما سمع هذا مني لم يحر الرجل جوابا، [طبعا أنا أسوق ما جرى بيني وبين الرجل بالمعنى، وإلا فهذه القصة قد مر عليها ما يقارب العشر سنين].
فقال لي: "أنا لا أعرف الرد عليك، ولكن معنا شيخ في الحملة لو تأتي وتكلمه"
فقلت له: "إنني مشغول والله، وكانت الأيام أيام امتحانات"
ومع إصراره خفت أن يظن أنني أتهرب فذهبت معه إلى مقر سكنه، وهناك التقيت بالشيخ المذكور، فبدأ الحديث وتكلم بكلام لا أذكره الآن، وأظنه كان يعظ القوم، ولكنه أثناء كلامه أنكر سنة المسح على الخفين إلا في السفر
فقلت له: قد ثبتت السنة في البخاري، ومسلم، وغيرهما، وأحاديث المسح متواترة، فجاوز الكلام عن هذه المسألة وأقحمنا في مسألة الصفات
فقلت له: "الرحمن على العرش استوى"
فقال: "استوى بمعنى استولى"
فقلت له: "هذا خلاف الظاهر، ولا يجوز تفسير الاستواء هنا بالاستيلاء، لأن الله قال: "ثم استوى على العرش"، والعطف بـ "ثم" يقتضي التعقيب مع التراخي، فيكون معنى هذا أن الله لم يكن مستوليا على العرش، ثم استولى عليه"
فقال لي: "إذا قلت إنه مستو على العرش لزم منه التحيز والجهة"
وكنت يومها ما زلت مبتدأ، وليست لي القوة العلمية الكافية، ولا الدراية بأساليب المناظرة، ولكني ولله الحمد جاوبته بما لدي من أصول سنية سلفية
فقلت له: "أنا لا أدري ما تقول، أنا أقول بما قال الله – عز وجل -، ولا أتدخل بعقلي في شيء من ذلك"
وهذه قاعدة نافعة جدا، ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – في كتابه كشف الشبهات، حيث يقول: "جواب أهل الباطل من طريقين: مجمل ومفصل
أما المجمل : فهو الأمر العظيم، والفائدة الكبيرة لمن عقلها ، وذلك قوله تعالى : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله "
وقد صح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال : "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله ، فاحذروهم "
مثال ذلك : إذا قال لك بعض المشركين: "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، وأن الشفاعة حق، وأن الأنبياء لهم جاه عند الله، أو ذكر كلاما للنبي – صلى الله عليه وسلم – يستدل به على شيء من باطله ، وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره
فجاوبه بقولك: إن الله ذكر في كتابه أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه، وما ذكرته لك من أن الله تعالى ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية ، وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء ، مع قولهم : " هؤلاء شفعاؤنا عند الله " ،
هذا أمر محكم بيّن لا يقدر أحد أن يغير معناه ، وما ذكرت لي أيها المشرك من القرآن أو كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – لا أعرف معناه ،
ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض ، وأن كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يخالف كلام الله .
وهذا كلام جيد سديد ، ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله ، فلا تستهن به ، فإنه كما قال تعالى : " وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " . " اهـ كلامه رحمه الله .
فهداني الله ساعتها إلى الجواب المجمل ، مع أني ما كنت ساعتها مطلعا على كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى -
فلما أتاني بكلام مجمل لا أعرف معناه، رجعت إلى المحكم الذي معي، وهو أن الله تعالى لا يشبهه شيء، وأنه تعالى لا يلحقه النقص من وجه من الوجوه، وأنه أعلم بنفسه من غيره، وأنه يجب علينا أن نسلم للآيات والأحاديث الصحيحة، فالله قد أثبت لنفسه العلو، والاستواء في آيات كثيرة جدا، ونفى عن نفسه مشابهة خلقه، فمن فهم من بعض الآيات ما يوهم التشبيه، أو النقص فالخطأ منه لا من الآيات
فأنا أثبت ما أثبتته الآيات، وأتوقف فيما لا أعلم
فلما قال لي ذلك الشيخ: "إثبات العلو يلزم منه إثبات التحيز، والجهة"
قلت له: أنا لا أعلم ما تقول، ولكني أقول كما قال الله تعالى: "الرحمن على العرش استوى"، ونحو ذلك من الآيات التي تدل على الاستواء والعلو .
فلما رآني قد جاوبته بهذا الجواب استغل الموقف، وجعل يستطرد في الكلام في صفات الله – عز وجل – بكلام لا أذكره الآن، وظهر أمام الناس أنه المنتصر، وأني قد انقطعت حجتي، مع أني أعلم أنه يعارض القرآن الكريم برأيه، لأنه فهم من آيات العلو التشبيه، فأولها، ولو لم يفهم التشبيه ما أولها .
ثم دخل في مسائل كثيرة لا أذكرها، حتى تكلم في مسألة الصفات هل هي عين الذات أم غيرها، فقال: "الحق أنها عين الذات"، قال لي: "وما تقول فيها؟"
قلت: "الله أعلم"
قال: "الحق أن الصفات عين الذات"
ثم تكلم بكلام لم أفهمه ساعتها، ولكني دريت فيما بعد أنه كان يقرر نفي الصفات بناء على تلك القاعدة، وأقطع أن العوام الذين كانوا في المجلس لم يكونوا يفهمون أكثر كلامه، لأنه ما كان يتكلم بالآيات والأحاديث، إنما كان يتكلم بكلام أكثره فلسفي، ويظهر بذلك أنه منتصر، وأنه العالم المحرر .
ثم خرجت من عنده وأنا مهزوم أمام الحاضرين – ولم يكونوا كثرا -، ولكنهم فرحوا بشيخهم، ورأوني مهزوما
ولذلك نهى العلماء عن مثل هذه المناظرات، ووضعوا لها شروطا خاصة، منها: أن يكون عالما بمذهبه، عالما بمذهب الخصم، واضح البيان، وأن تكون المناظرة عند إمام يلزم الطرفين بالقول الحق، ويشهره، وأن يكون هذا الإمام الحاكم عالما باللغة، مريدا للحق .
إلى غير ذلك من الشروط في المناظرة، التي تطلب من مظانها .
فمن أخل بمثل هذه الشروط فإنه قد ينتج من فعله شر أكثر من الذي يريد من الخير .
والله أعلم
ثم لما انفض ذلك المجلس أصاب قلبي ما لا يعلمه إلا الله من الحزن والغم، لأني شعرت أن القوم غير صادقين في طلب الحق
الله أعلم أكان ذلك حقا أم لا، لكن شعوري بذلك سبب لي انقباضا وحزنا في صدري .
ثم بحثت في بعض المسائل التي جرى النقاش فيها ،
ومنها مسألة : هل الصفات عين الذات أم غيرها ؟
فعلمت أن هذه المسألة أراد بها الإباضية أن ينفوا الصفات عن الله – عز وجل - ،
فقالوا : الصفات الواردة في الكتاب والسنة لا يراد بها أن ذات الله متصفة بها ،
ولكن المراد أنها عين الذات ، أي نفسها ،
فمعنى قولهم : الصفات عين الذات ، أي الصفات هي الذات ،
وعليه فقدرة الله – عز وجل – هي الله ، وسمع الله هو الله ، وعلمه هو نفسه ،
كل ذلك لا فرق بينه ،
ومرادهم بهذا نفي جميع الصفات عن الله – عز وجل - ،
يتبــــــــــــــــــــــــــــــع
|