الغزالي كما يراه القرضاوي
بقلم : د.يوسف القرضاوي
مدير مركز بحوث السنة النبوية/ جامعة قطر
لا أدري كيف أستطيع أن أحدثكم عن شيخنا الغزالي، وكيف أستطيع أن ألخص مسيرة نصف قرن، إلا كما لو أراد الإنسان أن يضع البحر في قارورة.
ورغم أن بيني وبين الشيخ الغزالي تسع سنوات فقط، فأنا أقول: “شيخنا الغزالي”؛ حيث إنني تتلمذت على يديه، فعرفته أولا قارئا لمقالاته، ثم لكتبه، بدءًا من “الإسلام والأوضاع الاقتصادية”، ثم “الإسلام والمناهج الاشتراكية”.
أحببته قبل أن أراه
حينما قرأت للغزالي وجدت أديبا من طراز ممتاز، يتكلم عن الإسلام بقلم بليغ، وما كنت أعلم أنه شيخ أزهري؛ فمعلوماتي أن المشايخ لهم أسلوب وموضوعات غير هذه الموضوعات، وروح غير هذه الروح، كان الشيخ الغزالي يكتب أحيانا تحت عنوان “خواطر حرة”، ويكتب في التاريخ تحت عنوان “صحائف المجد”، ويكتب أحيانا عن “الطبقات المستضعفة”.
ولذلك ما كنت أعتقد أن الغزالي الذي يكتب في مجلة “الإخوان المسلمون” أحد شيوخ الأزهر، حتى كتب يوما تحت توقيع “محمد الغزالي الواعظ”، فسألت: هل هو من عائلة الواعظ، أم أن الواعظ صفة له؟ قالوا: لا، هي صفة ووظيفة. قلت: هل هو شيخ أزهري؟ قالوا: نعم، هو شيخ معمم. فزادني هذا حبا له.
اللقاء الأول
ولم يقدر لي أن ألقاه إلا حينما أخذت من سجن قسم أول طنطا أنا وأخي أحمد العسال، وعندما حدث في الباخرة التي أقلتنا إلى الطور نوع من الهرج والمرج بين الإخوان، فإذا بشاب أقرب إلى القِصَر، حاسر الرأس، خرج وتكلم كلمات كانت بردًا وسلامًا، فقال: أيها الإخوة، يجب أن تصبروا وتصابروا، حتى نذهب إلى المكان الذي قدر لنا أن نعيش فيه، وهو الأرض التي انطلقت منها شرارة الوحي المقدسة، قبل وحي محمد صلى الله عليه وسلم، لتحرير الأمة المستعبدة، إلى الطور، فسكت الإخوان وكأن على رءوسهم الطير.
قلت لبعض الإخوة: مَن هذا المتحدث؟ قالوا: إنه الشيخ الأزهري محمد الغزالي. فقلت: هذا حبيبي الذي أحببته دون أن أراه. وها أنا أراه لأول مرة.
وشاء الله أن أكون معه حينما قسمنا في المعتقل على السجن، حيث كان المعتقل مقسما إلى حذاءات، والحذاء مقسم إلى عنابر؛ فكان من قدر الله أن أكون في هذا الحذاء الذي إمامه الشيخ الغزالي، يؤم المصلين ويخطبهم.
وحضرنا أول خطبة للشيخ، فإذا بها ثورة عارمة، فقد كانت تصرف للمعتقل أشياء من النواشف كما يسمونها، من معلبات وأشياء جاهزة ونحو ذلك، فلا يعطون المعتقلين منها إلا الفتات. فخطب الشيخ الغزالي خطبة ثم قاد مظاهرة تهتف بسقوط سياسة التجويع، والمعتقلون وراء الشيخ الغزالي، فخاف قادة المعتقل، وأقبلوا يفاوضون المعتقلين.
ومن هذا الوقت ظللنا مع الشيخ الغزالي، وكان شهر رمضان، فاستمتعنا به وراءه، يصلي بنا ويقرأ القرآن الذي كان يحفظه حفظا جيدا، وكان يقرأ ختمتين: ختمة يقرؤها في صلاة التراويح، وأخرى في الصلوات الأخرى.
وكان يقول في دعاء القنوت: “اللهم فك بقوتك أسرنا، واجبر برحمتك كسرنا، وتول بعنايتك أمرنا، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، اللهم عليك بالظالمين”.
وألقى علينا الغزالي محاضرات حول الإسلام والاستبداد السياسي، جمعها بعد ذلك في كتاب تحت عنوان “الإسلام والاستبداد السياسي”، ورغم أنه كان يعلم أن هناك عيونا وآذانا تستمع لكل ما يقال لكنه ما كان يبالي.
وحينما خرجنا من المعتقل ظللنا على صلة دائمة بالشيخ الغزالي؛ حيث يدعونا إلى بيته، نأكل من جيد طعامه، ونسمع من جيد كلامه.. هذا لبطوننا وذلك لعقولنا، فتعلمنا من الشيخ الغزالي محاضرا وتعلمنا منه مدرسا ومتحدثا وكاتبا.
“كتاب” وفاء للشيخ
وقد كتبت عن الشيخ الغزالي كتاب “الشيخ الغزالى كما عرفته.. رحلة نصف قرن” الذي أردت أن يكون صفحة وفاء للشيخ في حياته؛ فكثير من الناس لا يعترفون بأقدار الكبار إلا بعد وفاتهم، كما وجدت أن الماركسيين وغيرهم يضعون هالات على رجالهم وأدبائهم وشعرائهم ومفكريهم، بينما الإسلاميون لا يتحدث بعضهم عن بعض.
وقد بدأ هذا الكتاب عندما أراد ثلة أن يكتبوا كتابا عن الشيخ ويهدونه إليه بمناسبة بلوغه السبعين، وألفت لجنة لذلك، ولكن للأسف لم تنجح اللجنة في إتمام هذا الأمر، ولم يكتب إلا الأخ د.محمد عمارة الذي أصدر كتابا صغيرا بعنوان: “الشيخ الغزالي والموقع الفكري”، وبعض المقالات في كتاب عن دار الصحوة. وبدأت هذا الكتاب على أنه مقالة ولكنها طالت حتى جاء هذا الكتاب في عشرة فصول، ومع ذلك فإنها لم توف الشيخ حقه.
|