عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 28-11-2006, 07:11 AM
alaa_abes2 alaa_abes2 غير متصل
عضو جديد
 
تاريخ التّسجيل: Aug 2006
المشاركات: 96
إفتراضي

الدعوة لحمه ودمه


الشيخ الغزالي هو رجل دعوة من الطراز الأول، كانت الدعوة إلى الإسلام لحمته وسداه ومصبحه وممساه وحلم ليله وشغل نهاره، عاش للدعوة، ماضيه وحاضره ومستقبله للدعوة فحين يكتب أو يخطب أو يدرس فكله للدعوة، وإذا هاجم فللدعوة، وإذا دافع فعن الدعوة وإذا انتقد فللدعوة.

وكانت أدوات الدعوة عنده متيسرة ومتوافرة أولها القرآن الكريم، فكان يحفظ القرآن، كأنه أمامه سطر واحد، فكان يلتقط منه المعاني كأنه صفحة بين يديه، فهو يعتبره المصدر الأول للداعية ويجب أن يحكم على كل مصدر، يحكم على السنة ويحكم على القياس والإجماع ويحكم على كل شيء؛ فهو أصل العقيدة والشريعة.

واستطاع الشيخ الغزالي أن يستنبط من القرآن ما لا يستنبطه غيره.

فعندما كنت في الجزائر وبعض الإخوة من تلاميذ الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله يتكلمون عن فكرة الأستاذ مالك عن فكرة القابلية للاستعمار، قلت لهم: إن الشيخ الغزالي سبق إلى هذه الفكرة، قالوا: كيف وأين؟ قلت: في كتابه “الإسلام والأوضاع الاقتصادية” قال: إن الأمم تكون عندها استعدادات للفساد والاختلال، ويؤدي هذا الاختلال إلى الاحتلال، واستدل على ذلك بآيات سورة الإسراء عن بني إسرائيل حينما أفسدوا في الأرض أدى إلى إصابتهم بالاستعمار والطغيان استعمرهم البابليون والفرس والرومان.. الخ.

وكان الشيخ الغزالي يعيش مع القرآن فكان يصدِّر كتبه بهذه العبارة “في سبيل الله والمستضعفين” آخذا من الآية: “وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ” وهذا مبدأ قرآني. وردا على الذين يقولون “الدين أفيون الشعوب”، كوَّن الغزالى مع عدد من إخوانه العلماء الأزهريين جماعة تحت شعار”الدين في خدمة الشعب”.. فقد كان يرى أن الدين في خدمة الشعوب، فأصدر كتابيه الأول والثاني تحت هذا الشعار، ولهذا أيضا رفض كل ما لا يتفق مع القرآن؛ وهو ما جعله يرفض الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه أن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار. فقال: هذا مخالف للقرآن، فالله سبحانه وتعالى قال: “وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً”، والعرب لم يرسل إليهم رسول بنص آيات أربع من كتاب الله، وذكر من هذه الآيات: “لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَّا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ”، “وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ” لذلك رفض هذا الحديث؛ لأن القرآن عنده أعلى المصادر.

الأداة الثانية كانت الثقافة؛ فكان الشيخ الغزالي مثقفا ثقافة واسعة، وفي كتاب اسمه “ثقافة الداعية” ألفته من سنين طويلة ذكرت فيه أن الداعية محتاج إلى ستة أنواع من الثقافات: الثقافة الدينية، بمفرداتها المختلفة: تفسير وحديث وفقه وأصول وغير ذلك.

والثقافة الأدبية واللغوية، والشيخ الغزالي كان أديبا من أدباء الأمة، وكان حريصا على أن لا يخطئ من الناحية اللغوية، ولو أخطأ مرة اعترف واعتذر. وذات مرة انفعل في الكلام فأخطأ فقال: الانفعال جعلني أخطئ في النحو. سأحاول ألا أنفعل. وكان يحفظ آلاف الأبيات من الشعر؛ فأظن أنه يحفظ ديوان الحماسة جله إن لم يكن كله. كما كان لدى الشيخ الغزالي ثقافة تاريخية؛ فكان معنيا بالتاريخ الإسلامي، وثقافة إنسانية عامة وثقافة علمية، هذا بالإضافة إلى ثقافة واقعية؛ فكان موصولا بالواقع وتيارات الحياة المختلفة، وكانت هذه الثقافة الواسعة هي زاده وأداته الثانية بعد كتاب الله عز وجل.



أشعري النفس سلفي الروح


كان الشيخ الغزالي أشعريا، ولكنه لم يكن متعصبا، درس المذهب الأشعري فيما درسه في الابتدائي والثانوي وفي الأزهر وفي كلية أصول الدين، وحينما ألف كتابه “عقيدة المسلم” ألفه بروح سلفية ونفَس أشعري، وخاصة من حيث التبويب والتقسيم فإنك تجد فيه لمسة أشعرية؛ وهو ما جعله يقول بالتوفيق بين العقل والنقل، فإن المذهب الأشعري يقول: إن العقل هو أساس النقل، فلولا العقل ما كان النقل؛ لأن ثبوت النبوة أمر قائم على العقل، فلو ألغينا العقل ما ثبتت النبوة وما ثبت الوحي، ولهذا يقول الإمام الغزالي، ويقول قبله الأشاعرة: “إن العقل أساس النقل”؛ وهو ما جعله يقول: إن أحاديث الآحاد لا تثبت بها العقيدة ولا تفيد التواتر، أحاديث التواتر تفيد الظن ولا تفيد اليقين، وإخواننا الذين ردوا على الشيخ الغزالي أنكروا عليه هذا. مع أن الشيخ الغزالي لم يبتكر هذا المدرسة؛ فالأشعرية والماتريدية وجمهور الأصوليين مع الشيخ الغزالي، وقد ذكرت في كتابي أن محققي الحنابلة مع الشيخ الغزالي، وهم: أبو يعلى الفراء في العدة، وأبو الخطاب في التمهيد، وابن قدامة في الروضة، وابن تيمية في المسودة. والأصوليون الحنابلة أنفسهم يقولون: إن أحاديث الآحاد لا تفيد اليقين، وهذا هو المعقول؛ لأنها تلابسها أشياء لا يمكن أن تفيد اليقين.

من أدوات الشيخ الغزالي في الدعوة العقل، العقل المبصر، العقل المؤمن؛ فهو عقل في إطار قواطع الإسلام.

فقد استخدم الشيخ الغزالي عقله في فهم الشريعة وفهم العقيدة، لذلك رفض بعض الأحاديث التي تخالف العقل في رأيه، مثل: “لولا بنو إسرائيل لم يخنز أي يفسد اللحم”، و”لولا حواء لم تخن أنثى زوجها”، رغم أن هذا في صحيح البخاري، فقال: إن اللحم يخنز ويفسد قبل بني إسرائيل وبعدهم. هذا قانون من قوانين الحياة، إذا تركت اللحم يتغير بعد مدة وينتن. وقال: إن حواء ما خانت آدم، وليس عندنا في الإسلام أن حواء خانت. فهو يستخدم عقله، وبعض الناس ينكر عليه هذا، وكأنما يريد البعض أن يخرجه من الملة، فالشيخ لم ينكر السنة، بالعكس هو دافع عنها في كتابه “فقه السيرة” وفي كتابه “ليس من الإسلام” وفي عدد من الكتب؛ فهو داعية يريد أن يعرض الإسلام معقولا مقبولا موافقا للفطرة، موافقا للمسلمات العقلية والدينية فما خالف هذه المسلمات من أحاديث الآحاد رفضه وإن جاء في الصحاح.

وهذا لا يضر الشيخ الغزالي؛ فمنذ عهد الصحابة أنكرت عائشة رضي الله عنها أحاديث على صحابة سمعوها بآذانهم قالت: لا، لم يفهموها أو حرفوا فيها أو غيروا فيها؛ لأنها رأتها مخالفة للقرآن، ولم يقل أحد إن عائشة خرجت من الإسلام بردها لهذه الأحاديث.

فهذا العقل المبصر للغزالي، رد به ما يرد، ورجح ما رجح في قضايا كثيرة في الفقه.

ولكنه حينما يرجح لا يرجح بالهوى، بل عنده منهجية معينة وأصول ثابتة يحاكم إليها الأشياء.

حينما اختار مثلا في قضية أن المرأة ديتها كدية الرجل فأنكروا عليه هذا لأن هذا ضد المذاهب الأربعة، صحيح أن هذا ضد المذاهب الأربعة، لكن الإجماع لم ينعقد في هذه القضية؛ فقد خالف فيها الأصم وابن علية كما ذكر الشوكاني، ولم يصح فيها حديث؛ فكل الأحاديث التي استدل بها على أن دية المرأة على نصف من دية الرجل لم يصح منها شيء باعتراف أئمة الحديث أنفسهم، وهذا عقل الشيخ الغزالي الذي رد به على الشيوعيين وأبطل منطقهم.