عرض مشاركة مفردة
  #346  
قديم 13-12-2006, 05:10 AM
النسري النسري غير متصل
كاتب مغوار
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2004
الإقامة: الأردن
المشاركات: 2,917
إرسال رسالة عبر ICQ إلى النسري
Smile لا مكـان للفـرح

لا مكـان للفـرح


التقينا فتكسرت بيننا الحدود، تآخينا في زمن الوفاء به مفقود

أحببته وكان حباً في الله نشأ وتربى في بيت من بيوت الله ..

كان صغيراً
ولا تسألني عنه الآن !!

ومضت الأيام سريعة
في كل يوم أتعلم منه، يتعلم مني، نبحث عمن يعلمنا ..

وفجأة ..
تغيرت الأوضاع في البلد، وازدادت سوءاً مع الأيام ..
فقرر أبوه الرحيل
تدخلت في الأمر، حاورت .. ناقشت .. جادلت، وبذلت الرأي مع العمل ..
وكان الرحيل هو القرار الأخير ..
ودعته وأنا أكفكف دموعي، ونشيجي يقتل كلمات الوداع، في صدري ..
وكان يوم الوداع يوماً حزيناً ..

رحل وكلماته في سمعي ..
عبدالله لا تنس حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم).
هذه الكلمات كانت لي زاد ..
حثتني على طلب العلم ..
التحقت بعدة دروس ..
حملت أوراقي وأقلامي تتبعتها حيثما كانت ..
شعرت بالسعادة، وزيادة الإيمان ..
وتزداد سعادتي كلما تذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدال على الخير كفاعله) .
وأقول هنيئاً له!!

وتمضي الأيام، لكنني لم أنساه، وكيف أنساه ؟!!
فقرآنٌ تلوناه، وكتابٌ قرأناه، ومسجدٌ سجدنا فيه لله، كل هذه تذكرني إياه ..

كم تذاكرنا زماناً يوم كنا سعـداء
بكتاب الله نتلـوه صباحاً ومساء

سهرت تلك الليلة، أمسكت القلم اكتب له رسالة ..
حدثته عن أخباري، وسألته عن أخباره ..
وركض القلم في يدي لا يتوقف، ومداده على الورق يسطر ..
يا ترى ماذا يسطر ؟
وهل القلم هو الذي يسطر ؟
أم أنها أحاسيس ومشاعر، سبقت الرسائل، بل سبقت كل ما هو جديد في عالم الاتصال ..
سطرت بيدي موعظة عن !!
هادم اللذات ..
ذكرته وعظته ..
وختمت رسالتي بتاريخ تلك الليلة، الثامن عشر من شهر شعبان ..
وأرسلت الرسالة مع أول مسافر ..
وبعدها أخذني التفكير، لماذا هذه الرسالة ؟
أهي موعظة .. أم رسالة ؟
لم أترك لنفسي فرصة للندم، فقد مضت الرسالة وهو الآن يقرأها ..

لم يكن من عادتي الذهاب إلى مسجد أويس القرني صباحاً ..
ولكنني وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام المسجد ..
أوقفت سيارتي ..
سرت بخطواتٍ بطيئة ..
أرفع قدماً وأتمتم بينهما ..
فهذا الشارع مشيت فيه أنا ومحمد ..
وفي نهايته هناك دار محمد ..
نظرت إليها متأملاً، وكأنني استرجع الذكريات الجميلة ..
وأمام باب المسجد وقفت أتأمل زواياه، فهنا حلقتي وهناك حلقته ..
رآني الطلاب، ركضوا نحوي، وتنادى الجميع ( الأستاذ عبدالله ) ..
سلمت عليهم، مازحتهم وضحكت معهم ..
تجولت بنظري في جميع أرجاء المسجد، تساءلت في نفسي: أين سليمان ؟ مالي لا أراه في حلقته ..

بحثت عنه إنه يذكرني بالعزم والإصرار، والمسارعة إلى الخيرات ..
فهو لم يتجاوز السادسة عشر، وحج مع محمد ..
رغم اعتراض الجميع عليهما ..
لا زلت اذكرهما عندما انطلقا إلى منى ..
لم أرَ سليمان، وهممت أن أسأل عنه زملائه ..
وقبل أن أسأل، رأيته يأتي من بعيد ..
أنكرته، أنكرت حاله، اقبل نحوي، وكأن على ظهره حملٌ ثقيل، ألقى بنفسه على كتفي، أخفى نشيجه وأنينه، أرسل دموعه على صدري .. كأنه طفلٌ صغير، جذبته بقوة، واتجهت به إلى السيارة ..
سكتُ ولم اسأله، وسكت هو وظل يبكي ..

تركت لنفسي التفكير، يا ترى ماذا حدث له ؟
هل ذكرى محمد تؤرقه ؟
أم مصيبةٌ ألمت به ؟
أوقفت سيارتي عند مسجدي، طلبت منه النزول ..
رفض وكنت أظنه سيفرح ..
فأجبته لما أراد ..
قلت سأذهب إلى مكان يحبه ..
إلى مكان يحتضن ذكرى محمد ..
اتجهت نحو البحر ..
وكلما اقتربت من المكان، كلما زاد في البكاء ..
خفت وعدت أتسائل ما الذي حدث ؟
لقد ظننت أن هذا المكان سيجعله سعيداً ..
أوقفت السيارة، نزل متثاقلاً ..
ضحكت ضحكة االخائف القلق، وداعبته قائلاً :
أتتذكر هذا المكان جيداً ؟
فهمهم بكلماتٍ ممزوجة بالبكاء: ليتك اخترت غيره ..
فعادت ابتسامتي خوف وقلق ..
إذاً ما بالك تبكي ؟
قال جاءني العم حسين وقال: لقد حدث لمحمد حادث .. ولم يكمل من شدة البكاء ..
أخفى رأسه بين ركبته ..
أطبقت بيدي على كتفيه ..
هززته، حركته، صرخت به ..
مات
مات
مات
إنا لله وإنا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله
وصرخت به مرةً أخرى: قم .. قم ..
أرسلت العينان الدموع حارة ..
لقد مات محمد ..

حزمت أمتعتي، واتجهت نحو محطة النقل الجماعي ..
وفي أول رحلة صعدت متجهاً نحو قرية محمد ..
وصلت القرية ليلاً، كاد السائق أن يتخطى مدخل القرية ..
صرخت به توقف .. ها هو مدخل القرية ..
وقف، ولكن في أرض رملية ..
حاول الخروج لكنه لم يستطع ..
حاولت معه ولكن جميع المحاولات لم تنجح ..
طرقت باب دارٍ قريبة من الخط الرئيسي، وطلبت منه المساعدة ..
سألته عن والد محمد، لكنه لم يتعرف عليه ..
قلت: لقد مات ابنه في حادث سيارة، لكنه سكت ..
تسلل الفرح إلى قلبي، وشعرت أن الحادث إشاعة ..
ابتسمت لكن صوت طفل من داخل البيت انطلق ليحاصر آمالي التي انتعشت، ويئد أحلامي التي انبعثت من جديد، فيُذكر الأب الناسي، ويعيدني إلى دوامة الحزن ..

انطلق يصف لنا الطريق، وانطلقت دموعي تسيل على خدي ويخفيها الظلام ..
عاد الرجل إلى بيته، والسيارة لا زالت وسط الرمال ..
استجمعت قواي واستعنت بالله في دفعها حتى تمكن السائق من إخراجها، وسرنا على الوصف ..
وفي الطريق وجدنا رجل يعرفني وأعرفه، عانقني وعانقته، ثم صعد معنا السيارة، وراح يصف الطريق ..
اقتربنا من دار يتسلل من خلال جدارها المصنوع من القش ضوء خافت، أشار الرجل إليه قائلاً : ذاك دار والد محمد ..
أوقفنا السيارة وخرج الرجل ينادي، فخرج مجموعة لم أتبين أحداً منهم فقد كان الظلام ودموعي يحجبان النظر عني ..
قشعريرة سرت في جسدي، شعرت أن قدميي غير قادرتين على حملي، تملكتني رغبة شديدة في البكاء، حاولت كتمانه، نزلت من السيارة، ألقيت بجسدي بين أحضان والد محمد ولم استطع الكلام، راح يعزيني، أما أنا فقد كنت أحمد الله أن الظلام كان شديداً فلا يرى أحد دموعي ..
انتقلت من حضن إلى حضن، شعرت أثناء ذلك بحب عظيم ..
وشعرت من فرحهم الحزين بقدومي أن محمدا قد عاد إليهم ..
أما أنا فأيقنت بأني قد فقدت محمد !!

دخلت إلى الدار وهناك انبعث صوت حزين يخاطبنا من على بعد ..
عبدالله .. عبدالله .. مات محمد يا عبدالله ..
وقفت الكلمات في حلقي، ولم انطق، لكنها راحت تعزيني وتصبرني ..
الجميع يتحرك، فهذا يجهز سريراً لي، واخر يحضر الماء، الأب يدعوني لأجلس، يسألني عن أخباري، عن مدينتي، يريد أن ينتشلني من دوامة الحزن التي سكنت وجداني ..
قدموا لي الطعام، حاولت أن أتناوله لكن غصة الحزن تلفظه، حاولت ولكني لم استطع ..
أعلن الأب للجميع أن يتركوني لكي أنام، انصرفوا ووجهت بصري نحو السماء والتي زينتها النجوم وهمت مع الذكريات ..
شعرت بحركة في سريري، ألتفت وإذا علي الصغير يصعد بجانبي، يردد أبيات على سمعي :

صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعـل الله يرحمنـي

ويقول : لقد قلت لهم أن الأستاذ عبدالله سيأتي، احتضنته وقبلته وجلست استمع إليه ..
سلوت معه وهو يحدثني، مضى الليل، وارتفع صوت المؤذن يعلن عن صلاة الفجر ..
سألته : هل تعرف طريق المسجد ؟ نعم، كانت إجابته ..
انطلقت إلى المسجد وهو معي، وبعد الصلاة سألني : هل تريد أن ترى قبر محمد ؟ قلت له : نعم ..
سرنا حتى وصلنا قبر محمد، أشار إليه ..
وقفت أدعو له وبكيت بكاءً مراً، لم أشعر بمن حولي ..
عدنا إلى البيت وقد وعدني أن لا يخبر أحداً ببكائي، ووعدته ألا أخبر أحداً بأنه ذهب بي إلى قبر محمد ..
أشرقت الشمس، فأرسلت أشعتها الذهبية على كثبان الرمال الصفراء، فيظهر المكان يبث لي حديث الأمس عندما كان محمد يتنقل بين أرجاءه ..
فهذه حقيبته التي أودعها أوراقه ودفاتره ومذكراته ..
نثرتها بين يدي أقلب صفحات الماضي الجميل ..

وهذه رسائلي، بحثت فيها عن رسالتي الأخيرة، لكنني وجدت توقيعاً له على إحداها كتبه بخط يده ..(ما من رجلين تحابا في الله، إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حباً لصاحبه) حديث صحيح ..
ترقرقت دمعة في عيني وقلت: حتى في هذه سبقتني يا محمد .. وجدت رسائل كتبها لي، ولم يرسلها، جميعها تحثني على طلب العلم، تذكرني بعلماء الأمة ورحلتهم في طلب العلم، حشد فيها الكثير والكثير من القصص التي تشحذ الهمم ..
ووجدت بين الأوراق رسالة قد قطعت، فتحتها فإذا هي رسالتي الاخيرة ..
لم يقرأها فقد وصلت ومحمد في المستشفى ..


يتبـــــــــــــــــع
__________________