عرض مشاركة مفردة
  #27  
قديم 19-12-2006, 02:24 AM
أحمد ياسين أحمد ياسين غير متصل
من كبار الكتّاب
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2005
الإقامة: فرنسا
المشاركات: 6,264
إفتراضي

وقد تناول "الغزالي" أحداث هذا الخلاف، وراجع نفسه فيها، وأعاد تقدير الموقف، وكتب في الطبعة الجديدة من كتابه (من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث)، وهو الكتاب الذي دوّن فيه "الغزالي" أحداث هذا الخلاف فقال: "لقد اختلفت مع المغفور له الأستاذ "حسن الهضيبي، وكنت حادَّ المشاعر في هذا الخلاف؛ لأنني اعتقدّت أن بعض خصومي أضغنوا صدر الأستاذ "حسن الهضيبي" لينالوا مني، فلما التقيت به- عليه رحمة الله- بعد أن خرج من المعتقل تذاكرنا ما وقع، وتصافَينا، وتنَاسَينا ما كان، واتفقت معه على خدمة الدعوة الإسلامية، وعفا الله عما سلف".

وهذا مما يحسب لـ"الغزالي"، فقد كان كثير المراجعة لما يقول ويكتب، ولا يستنكف أن يؤوب إلى الصواب ما دام قد تبين له، ويعلن عن ذلك في شجاعة نادرة لا نعرفها إلا في الأفذاذ من الرجال.

وظل الشيخ في هذا العهد يجأر بالحق ويصدع به، وهو مغلول اليد مقيد الخطو، ويكشف المكر السيئ الذي يدبره أعداء الإسلام، من خلال ما كتب في هذه الفترة الحالكة السواد مثل: (كفاح دين)، (معركة المصحف في العالم الإسلامي)، و(حصاد الغرور)، و(الإسلام والزحف الأحمر).

ويُحسب لـ"الغزالي" جرأته البالغة وشجاعته النادرة في بيان حقائق الإسلام، في الوقت الذي آثر فيه الغالبية من الناس الصمت والسكون؛ لأن فيه نجاة حياتهم من هول ما يسمعون في المعتقلات، ولم يكتفِ بعضهم بالصمت المهين، بل تطوع بتزيين الباطل لأهل الحكم وتحريف الكلم عن مواضعه، ولن ينسى أحد موقفه في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي عُقد سنة (1382هـ = 1962م) حيث وقف وحده أمام حشود ضخمة من الحاضرين يدعو إلى استقلال الأمة في تشريعاتها، والتزامها في التزيِّي بما يتفق مع الشرع، وكان لكلام "الغزالي" وقعُه الطيب في نفوس المؤمنين الصامتين في الوقت الذي هاجت فيه أقلام الفتنة، وسلطت سمومها على الشيخ الأعزل فارس الميدان، وخرجت جريدة (الأهرام) عن وقارِها وسخِرت من الشيخ في استهانة بالغة، لكن الأمة التي ظُن أنها قد استجابت لما يُدبَّر لها خرجت في مظاهرات حاشدة من الجامع الأزهر، وتجمَّعت عند جريدة الأهرام لتثأر لكرامتها وعقيدتها ولكرامة أحد دعاتها ورموزها، واضطُّرت جريدة الأهرام إلى تقديم اعتذار.

في عهد السادات

واتسعت دائرة عمل الشيخ في عهد الرئيس "السادات"، وخاصةً في الفترات الأولى من عهده التي سُمح للعلماء فيها بشيء من الحركة، استغله الغيورون من العلماء؛ فكثفوا نشاطهم في الدعوة، فاستجاب الشباب لدعوتهم، وظهر الوجه الحقيقي لمصر، وكان الشيخ "الغزالي" واحدًا من أبرز هؤلاء الدعاة، يقدمه جهده وجهاده ولسانه وقلمه، ورزقه الله قبولاً وبركةً في العمل؛ فما كاد يخطب الجمعة في جامع "عمرو بن العاص"- وكان مهملاً لسنوات طويلة- حتى عاد إليه بهاؤه، وامتلأت أروِقته بالمصلين.

ولم يتخلَّ الشيخ "الغزالي" عن صراحته في إبداء الرأي، ويقظته في كشف المتربصين بالإسلام، وحكمته في قيادة من ألقوا بأزمّتهم له، حتى إذا أعلنت الدولة عن نيتها في تغيير قانون الأحوال الشخصية في مصر، وتسرب إلى الرأي العام بعض مواد القانون التي تخالف الشرع الحكيم؛ قال الشيخ فيها كلمته، بما أغضب بعض الحاكمين، وزاد من غضبهم التفاف الشباب حول الشيخ، ونقده بعض الأحوال العامة في الدولة، فضُيق عليه وأُبعد عن جامع (عمرو بن العاص)، وجُمّد نشاطه في الوزارة، فاضطُّر إلى مغادرة مصر للعمل في جامعة (أم القرى) بالمملكة العربية السعودية، وظل هناك سبع سنوات لم ينقطع خلالها عن الدعوة إلى الله، في الجامعة أو عبر وسائل الإعلام المسموعة والمرئية.

في الجزائر

ثم انتقل الشيخ "الغزالي" إلى الجزائر ليعمل رئيسًا للمجلس العلمي لجامعة (الأمير عبدالقادر) الإسلامية بقسطنطينة، ولم يقتصر أثر جهده على تطوير الجامعة، وزيادة عدد كلياتها، ووضع المناهج العلمية والتقاليد الجامعية، بل امتد ليشمل الجزائر كلها؛ حيث كان له حديث أسبوعي مساء كل يوم اثنين يبثه التلفاز، ويترقَّبه الجزائريون لما يجدون فيه من معانٍ جديدة وأفكار تعين في فهم الإسلام والحياة، ولا شك أن جهاده هناك أكمل الجهود التي بدأها زعيما الإصلاح في الجزائر: عبدالحميد بن باديس، ومحمد البشير الإبراهيمي، ومدرستهما الفكرية.

ويقتضي الإنصاف القول إن الشيخ كان يلقَى دعمًا وعونًا من رئيس الدولة الجزائرية "الشاذلي بن جديد"، الذي كان يرغب في الإصلاح، وإعادة الجزائر إلى عروبتها بعد أن أصبحت غريبة الوجه واللسان، وبعد السنوات السبع التي قضاها في الجزائر عاد إلى مصر ليستكمل نشاطه وجهاده في التأليف والمحاضرة.

"الغزالي" بين رجال الإصلاح

يقف "الغزالي" بين دعاة الإصلاح كالطود الشامخ، متعدد المواهب والملَكات، راض ميدان التأليف؛ فلم يكتفِ بجانب واحد من جوانب الفكر الإسلامي؛ بل شملت مؤلفاته: التجديد في الفقه السياسي ومحاربة الأدواء والعلل، والرد على خصوم الإسلام، والعقيدة والدعوة والأخلاق، والتاريخ والتفسير والحديث، والتصوف وفن الذكر، وقد أحدثت بعض مؤلفاته دويًّا هائلاً بين مؤيديه وخصومه في أخريات حياته مثل كتابَيه: (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) و(قضايا المرأة المسلمة).
وكان لعمق فكره وفهمه للإسلام أن اتسعت دائرة عمله لتشمل خصوم الإسلام الكائدين له، سواءٌ أكانوا من المسلمين أو من غيرهم، وطائفة كبيرة من كتبه تحمل هذا الهمّ، وتسدُّ تلك الثغرة بكشف زيغ هؤلاء، ورد محاولاتهم للكيد للإسلام.
أما الجبهة الأخرى التي شملتها دائرة عمله فشملت بعض المشتغلين بالدعوة الذين شغلوا الناس بالفروع عن الأصول وبالجزئيات عن الكليات، وبأعمال الجوارح عن أعمال القلوب، وهذه الطائفة من الناس تركزت عليهم أعمال الشيخ وجهوده؛ لكي يفيقوا مما هم فيه من غفلة وعدم إدراك، ولم يسلم الشيخ من ألسنتهم، فهاجموه في عنف، ولم يراعوا جهاده وجهده، ولم يحترموا فكره واجتهاده، لكن الشيخ مضى في طريقه دون أن يلتفت إلى صراخهم.

وتضمنت كتبه عناصر الإصلاح التي دعا إليها على بصيرة؛ لتشمل تجديد الإيمان بالله وتعميق اليقين بالآخرة، والدعوة إلى العدل الاجتماعي، ومقاومة الاستبداد السياسي، وتحرير المرأة من التقاليد الدخيلة، ومحاربة التدين المغلوط، وتحرير الأمّة وتوحيدها، والدعوة إلى التقدم ومقاومة التخلف، وتنقية الثقافة الإسلامية، والعناية باللغة العربية.

واستعان في وسائل إصلاحه بالخطبة البصيرة، التي تتميز بالعرض الشافي والأفكار الواضحة التي يعد لها جيدًا، واللغة الجميلة الرشيقة، والإيقاع الهادئ والنطق المطمئن؛ فلا حماسة عاتية تهيج المشاعر والنفوس، ولا فضول في الكلام يُنسي بضعه بعضًا، وهو في خُطَبه معلِّم موجه، ومصلح مرشد، ورائد طريق يأخذ بيد صاحبه إلى بَر الأمان، وخلاصة القول إن الغزالي توافرت فيه من ملكات الإصلاح ما تفرق عند غيره؛ فهو: مؤلف بارع، ومجاهد صادق، وخطيب مؤثر، وخبير بأدواء المجتمع بصير بأدويته.

من أهم مؤلفاته

- الإسلام والأوضاع الاقتصادية (وهو أول كتبه 1947م)

- السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث.

- قضايا المرأة المسلمة.

- فقه السيرة.

- دستور الوحدة الثقافية (وهو شرح للأصول العشرين).

- من هنا نعلم.

- قذائف الحق.

- ركائز الإيمان.

- الإسلام والاستبداد السياسي.

- علل وأدوية.

الوفاة

لقي الشيخ ربه وهو في الميدان الذي قضى فيه عمره كله- حيث كان في مؤتمر للدعوة الإسلامية بالرياض، واحتد النقاش في مسألة متعلقة بالعقيدة فانبرى الشيخ موضحًا ومعلمًا فأصيب بأزمة قلبية تُوفي على أثرها- رحمه الله- في (19 من شوال 1270هـ = 9 من مارس 1996م)، ودُفِن بالبقيع في المدينة المنورة.

من مصادر الدراسة:

- يوسف القرضاوي: الشيخ الغزالي كما عرفته - دار الشروق - القاهرة - 1420-2000م.

- عبد الحليم عويس وآخرون: الشيخ "محمد الغزالي".. صور من حياة مجاهد عظيم ودراسة لجوانب من فكره - دار الصحوة للنشر - القاهرة 1413هـ = 1993م.

- محمد عمارة: الشيخ "محمد الغزالي".. الموقع الفكري والمعارك الحربية - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة - 1992م.

- محمد رجب بيومي: النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين - دار القلم - دمشق 1420هـ = 1999م.


مصدر الموضوع